مقال جسور
فلسطين تعود بقوة المشهد الثقافي

يقظان التقي
صحافي وأستاذ جامعي لبناني
تعود فلسطين بقوة المشهد الثقافي، لا الإعلامي، ولا السياسي. كأنها تجد ربطًا بين زمنين وأكثر. لا تكتفي بصورة آحادية إزاء ما يجري في المجتمع الإنساني المفتوح على حروب ونزاعاتٍ هنا وهناك، وآخرها الحرب الروسية على أوكرانيا.
تختبر فلسطين فضاء جديداً كلما تصاعدت الحريات، والحروب، والتجارب والهوّيات، وتختبر نفسها في مساحات آلة قياس، وجودية، في خضم التعدديات الفكرية المتناقضة، والمتجادلة. واذا كان عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، اعتبر أن “الغرب لم يعد له قضية ليدافع عنها”، حال الشعوب العربية في احتجاجاتها السلمية، التي صار لها قضية الحرية، متحدثا عن “مصطلح جديد أوسع للشعب”؛ تعود المسألة الفلسطينية على المحك كفضاء انساني لما يسمى حرية “نسبية”، أو ديمقراطية “نسبية”، لأن مصير الشعب الفلسطيني يشكّل نسيجًا من الاجتماع العالمي الجديد، ومن المواقع والثوابت الرئيسة، حين تطرح مسألة حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ينتقل العالم من زمن إلى زمن، ومن حال الى حال. وحده الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولا أقول الصراع العربي – الاسرائيلي بعد سلسلة المتغيرات والتحولات المتناقضة.
وحده هذا الصراع، يعزز تطلعات شعب كامل يريد ان يذهب الى أمكنة جديدة، وما يمكن ان يكون عليه غده المقبل. قدر فلسطين أن تختبر على مدى قرن تقريبًا كل المراحل مما يصدم، ويفاجئ، ويخترق الطالع من العالم، الذي يتقدم الى أقصى الصدوع. لا ضعفًا في الزمن الفلسطيني، وانما نتيجة التاريخ الجرح مع الاحتلال الإسرائيلي، واليأس من التباس الشخصية الديمقراطية الغربية، والانقسامات العربية. مشهد آخر، من ضعف الجهود العربية والدولية، التي لم تستطع فرض الحلول السلمية، في مشهد هش وعارٍ . مشهد يثير أسئلة حول حقوق الإنسان، في وقت تمكنت فيه اسرائيل عن طريق العنف، والاستيطان، والقمع، والقلع، من مصادرة حريات العالم لمصلحتها، صادرت معها ارادة المجتمعات الغربية “الحرّة”.
مع ذلك، وعلى مدى عقود من السنين لم تضعف ارادات المجتمع الفلسطيني الثقافية، من أن تعمق جذور القضية.
هي فلسطين تسعى ان تكون فعلا قضية عالمية مجددا. تصفع المحتل. تحاصره، وسجونه، ومحاكمه، وحروبه، واغتيالاته، ومحاولته طمس الهوّية الفلسطينية. ذلك أن الثقافة، هي في جوهرها سياسة، ونقد، وتمرد، وحرية، وعقلانية. وعندما تتذكر فلسطين في هذا الكم من المواجهات الثقافية في الفكر والتاريخ مع وليد الخالدي، ونقولا زيادة، وادوارد سعيد، وغسان كنفاني، وعزمي بشاره، واميل حبيبي، وابراهيم ابو الغد، وحسن الكرمي، وحنا بطاطو، وغسان زقطان، والياس صنبر، واحسان عباس، واحمد خليفة ومي زيادة، وغادة كرمي، وسحر خليفة … أو في الشعر، والرواية، والادب، مع محمود درويش، وتوفيق زيات، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، ومعين بسيسو، وابراهيم طوقان، وتوفيق صايغ، وابراهيم نصرالله، وعز الدين المناصرة، وموسى حوامدة والعشرات… إلى التلفزيون والسينما والمسرح مع غسان مطر، واديب قدورة، وبشار ابراهيم، وسهير عودة، وشريف العلمي، ومي المصري، ورانيا الكردي، وميشيل خليفة، وفرح بسيسو ونزار حسن… وموسيقيون ومغنون ومغنيات، منهم أبو عرب، وحليم الرومي، وريم البنّا، وكاميليا جبران، وميس حمدان، ومحمد عساف، ورائدة طه.. إلى التشكيليين، ومنهم منى حاطوم، واسماعيل شموط، ومصطفى الحلاج، وعماد حجاج، وتمام الأكحل.. إلى المصممين وأعلام السياسة والحقوق والقانون والدين والصحافة والأعلام ورجال الأعمال والاقتصاد والعمارة وجال المصارف الذين نقلوا ثرواتهم وأعمالهم إلى الأردن ولبنان بعد نكبة 1948، إلى العسكريين والفدائيين وأسماؤهم تطول في طول فلسطين وعرضها، وفي الشتات الواسع.
نتذكر تلك الظواهر الثقافية في الشعر، والرواية، والتاريخ، والادب، والموسيقى، والمسرح، والسينما، والفنون التشكيلية. فنعرف إلى أي مدى أبرزت فلسطين تعددية على مستوى الأفكار، نسيجا تحول كتلة تاريخية داخل الحدود، وفي الشتات، نسيجا حيويا في العديد من المدن العالمية، فيما تريده إسرائيل مجتمعا مغلقا، ومحبطا.
الذي يفسر هذه العودة القوية ليس الحنين بين زمنين، أو نوستالجيا مأسوية. ليس بالتأكيد هو الاختبار السياسي المنقسم، والمفصوم واقعيا عن الشارع. ولكنه بالتأكيد، هو الاختبار الثقافي، والأخلاقي التاريخي الأنسني، والأكثر راديكالية.
من الإنغلاق إلى المجتمع المفتوح
كأن العالم لم ينس مخاطر الانغلاق العائد مع عودة الفاشيات والعنصريات وأشكال الحرب والنبذ. الصورة، التي تأتي من العالم وهو يواجه تحولات جيوسياسية كبرى، تطرح مسألة العودة الى أفكار المجتمع المفتوح. وقد تميز القرن العشرون بانغلاقات شتى. إنها الحرب العالمية مجددًا. الحرب الروسية الأوكرانية في قلب أوراسيا. هي حرب أوروبا داخل أوروبا. إذ تنقلنا إلى هذا السؤال الذي كنا نجده ثانويًا. فيعود اليوم بكل قيوده وتعقيداته في حرب وجودية، ناحية مأساة الشعب الفلسطيني، والتي لا تختزلها الأحداث الجارية لسببين:
– تأكيد مسافة يعود اليها العالم في مسألتي: حق تقرير المصير وحقوق الانسان. والقضية الفلسطينية تعود بطريقة الميزان في كل مرة مقارنة مع الأحداث الخارجية، لأن الشعب الفلسطيني الوحيد في العالم، الذي لم يحصل على حق تقرير مصيره.
– تتعمق أكثر فكرة المجتمع المفتوح مع الخطورة التي تحملها المجتمعات المغلقة، مع تصاعد الخطابات الشعبوية والمتطرفة حالة الجماعات الدينية اليمينية المتشددة في إسرائيل.
لن يعطي العالم الكلمة للشعب الفلسطيني، وعلى أرضه يعيش سوء تفاهم خطير، وأسوأ، اذ يخضع لاحتلال اسرائيلي عنصري لا يحتمل، يستند على اساطير، غير علمية، وغير تاريخية حقيقية برأي مؤرخين يهود جدداً.
الانفتاح الغربي على الشعب الاوكراني، لا يمكن ان تختزله الليبرالية الغربية في صيغته القصوى، والتي تغذّي الحروب. نعم، هو تأكيد على الحقوق ومصطلح الشعب الواسع في سعيه نحو الاستقلالية والحرية. ولكن هذا التباعد يمكن اخذ مصدره من عدة أمكنة. فخطاب المجتمع المفتوح لا يمكن ان يكون آحاديا سواء المجتمع المفتوح الحقيقي، السياسي، أو الديني، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، او العالمي والفضولي. ما يشكل جسورًا ومرورًا لزمن من الثبات مقابل قوى العنف، والانغلاق، والحروب، والعنّت الاستيطاني والعنصري الذي تمارسه اسرائيل.
لا يحمل الأمر مفاجأة. الحرب العالمية الجديدة يمكن ان تكون انطلاقة للخروج من “ستاتيكو ” الاحتلال المفخخ، أقله ثقافيا، وعدم الاستكانة في طرح القضايا الانسانية في المؤسسة القانونية الدولية. المؤسسة التي تمثلها الامم المتحدة وهيئاتها في المحكمة الجنائية الدولية وفي مجلس حقوق الانسان، او في المحكمة الأوروبية، او المحاكم الأوروبية المستقلة.
على أولئك الذين يمسكون بالمجتمع المفتوح ان يوجهوا بوصلتهم الى هنا، الى فلسطين المحتلة. والا كانت فكرة الليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان شيئا مخادعا، وتتقدم أحيانا مساحة فارغة او مهجورة أحيانا، في غياب القواعد والمبادئ المؤسسة لمصطلح الشعب الذي ازداد توسعية. هذا ما حدث طوال قرن مع فلاسفة ومفكرين ومؤرخين، فسروا بميتافيزيقتهم وجود اسرائيل بالمجتمع المفتوح وبمبالغة مضللّة زائفة في كتاباتهم وخطاباتهم. كأن الاحتلال يتشكل بياضا يمر تحت عيونهم. فيما يتعرض الشعب الفلسطيني كل يوم الى شكل من أشكال الابادة الجماعية.
لم يعد الشعب الفلسطيني مجرد كتلة تاريخية معلقة، أو مجموعات، وبيوت، قرى، ومدن متناثرة، تفصل بينها جدران اسمنتية اصطناعية بفعل ثقافة استيطان، اصطناعية مطلقا.
القضية تعود بالتفكر الواسع كسبيل للاختبار الثقافي، وكوسيلة جذب واستقطاب لقضية الحرية. فلسطين ظاهرة ثقافية أولًا، ممكن الالتزام بها مجددا على مستوى المثقفين من كتاب، ومفكرين، وشعراء، وفنانين، وايديولوجيين. فيكون على كل منهم ان يختار فكرته، ورؤيته للعالم، من ضمن رؤية عالمية أوسع. هذا ضمن استراتيجيات، أو آليات القوة الشعبية في بناء الديمقراطية التعددية، وفي مواجهة الصراعات العرقية والدينية المحتدمة.
تتعرض الديمقراطية إلى كسر تابواتها، إذا ما تنكرت لقضية الشعب الفلسطيني، وعزلتّها عن البينّات العالمية، كبيئةً الحريات الاجتماعية، والسياسية، واذا ما استمرت اسرائيل في غطرستها، وفي خلخلة الثوابت القائمة، وادخال الحياة اليومية الفلسطينية والعربية في نزوع استهلاكي مدمر للأفكار الحداثية. الأفكار، التي مهدت للنهضة العربية. هذا يعني فشل المدينة العالمية الحديثة في مواجهة صدمة الحداثة، التي كسرتها الايديولوجيات المتباينة مع ظواهر معقدة اقليميا.
لكن فلسطين لم تقطع علاقاتها مع الحداثة، وهي تتعرض لما تتعرض له ثقافيا، ولا علىً مستوى الشباب الفلسطيني، الذي ينهض قادرا على ايصال ما يريد ايصاله، وبطرائق تعبير مختلفة.
ما زال هذا الشباب يقول افكاره الجديدة. وان تعذر فعبر الجسد والدم، بلغة تخدم ثورته، وبأساليب تجريب، تطال كل انماط عيشه في مواجهة عدوان محتل تعززه ظواهر الانقسام الداخلي، وعبثيته.
صناعة التاريخ الجديد
ما تزال ظواهر شعريةً مثل محمد درويش (1941-2008)، وتوفيق زياد (1929-1994)، وكثيرين تقرأ مجددا. وما يزال ادوارد سعيد (1935-2003)، برتبة الأستاذ الكبير للشباب الفلسطيني وفي العالم، والذي يخترق كل يوم التشرد والاغتراب الحيّ. فيما شيخ المؤرخين نقولا زيادة (1907-2006) يركن الاسراء والمعراج للقدس لرؤيا مستقبلية. فيما وليد الخالدي، المقدسي، خريج اكسفورد يكتب بإسهاب تغريبة ونكبة تهجير الفلسطينيين عام 1948. اما المفكر عزمي بشارة، المقدسي الفذّ يضع الدين والعلمانية في سياق تاريخي، وينتج تاريخا فلسطينا هائلا بنظرات جديدة.
كل منتج ادبي وفني وتاريخي وانساني فلسطيني، يكمل تجربته الثورية هناك في الأميركيتين، وفي أوروبا وآسيا وفي كل المحيط الانساني. وتقرأ الوجه المتفاءل عند اميل حبيبي (المتشائل) (1922-1996)، تقرأ فيه أكثر من الوجه المتشائم في صيرورة شعب تقدمية مطلقا. فالتاريخ لا يعود الى الوراء.
مثل هذه الاتجاهات، تعبر عن مصير الشعب الفلسطيني نفسه وأكثر. شعب يواجه ارهاب دولة مختلفا جدا، ومعقدا.
وسائل التعبير الفلسطيني ما تزال ممكنةً وصولا الى الابداعات والافكار. والارهاب سيجهض وبشكل تراجيدي، في مواجهة قيم حرية معولمة. التأطير الأمني في المنطقة بكاملها، وتكثيف الافكار حول هذه المسألة، لن يدوم طويلا. فتختار الانظمة شبيها لها لحمايتها. هذا فعل استحالة. صحيح، قد يخفت صوت القضية الفلسطينية. لكن لا ينسحب الامر على فلسطين التاريخية ومثقفيها، ولا على المثقفين العرب. بالعكس سينجذب العالم أكثر الىً النص المفتوح في نتاج الشعر، والادب، والفكر الفلسطيني، والسينما، والمسرح والغناء العالي.. في مواجهة عصر الايديولوجيات المتأخرة، حتى لو أقفلت الابواب كلها بوجه القضية الجذرية ناريا.
واقعٌ بمقدور الشعب الفلسطيني تجاوزه والتمرد عليه. كم كان فنانو، ومثقفو الارض، شجعانا كفاية في وجه الحصار. فدونّوا أفكارهم واصواتهم التشكيلية في كل الأمكنة، وعمقوا ثقافتهم. هو النتاج، الذي يحمي فلسطين اليوم. وحدها الثقافة تشكل اخر مساحات التعبير والحرية. تقاوم محاولات تحويل الارض ثكنة عسكرية ومجتمعات مغلقة. هذا لا يشبه مطلقا مبدعين تحدوا الحديد والنار، وبحسب تعبير درويش ستبقى فلسطين “خيمتهم الاخيرة”. انتاجا لنهضة ثالثة عربيا، أكثر توازنا في سياق نموذج التعددية في العالم.
عن تلك الآتية لا محالة
ستخرج حرب أوكرانيا الى الضوء بالكثير من المثقفين والنخب، الذين يكتبون عن حقوق الانسان. القضية الفلسطينة امامنا. ليست وراءنا، في مواجهة احتلال يمثل نظاما معقدا من الفصل العنصري وموجات جديدة من الشعبوية والفوضى. المجتمع الفلسطيني قادر على التمرد بالمعاني الثقافية أكثر من اي وقت مضى، في التضامن، والتكامل مع الذين يشبهونه في اللغة والقيم التاريخية وقيم التعددية. بهوامش أكثر تفاؤلية تقترح لفلسطين بدايات ممكنةً، في عوالم تعيش مراحلها الانتقالية. في مثل هذه الحالة الأجوبة، كما الأسئلة بسيطة شاعرية ريما. لكن مشبعة بالهواجس والخطر.
فلسطين دائما تعلمنا انها على هبّة المجهول، مثل الشعر آتية دوما. تعلن تمسكها بالجذور والارض. أرض عرفت ثباتا هائلا على مدى قرن بكامله. الاحتلال دائمًا على هبّة المجهول البغيض. ليس لديه ما يقدمه ثقافي. هي قصيدة درويش تعترض الركود على طريقتها، تجترح حضورها بقوة، وبكل عنفوانها حتى في ظل ايام تبدو عادية وهشّة. لكنها أيام مرعبّة. قصيدة تماما كالأرض، حيث انطلق درويش ومبدعون ليحملوا قضية واسم وهويّةً. فيما العالم حولهم ما كان سوى خوف وذل..
كل هذا الانتاج الفلسطيني الثقافي امامنا. ما عاد الفلسطيني واحدًا. صار كثيرًا. حتى لو لم يعد هناك شيء في السياسة. فالثقافة هي بحث في الانتظارات لعالم أقلّ عنفا، وأفضل حرية.
تلمع أسماء كثيرة. بتدفق حميم في اللاوعي والمدروك إحساسا، وتحت الجلد. الحلم بأن يكون لفلسطين كتابها المقبل وأكثر. والجسور لن تكتفي برسم الشخصيات، وهي ملامح أكثر من دلالات لتشكيل احتمالات مقبلة. ولكل منها مواقعها الابداعية، وخصوصياتها، واختباراتها. وسيلاق معها الفلسطينيون بيوتهم، واماكنهم غير المتوقعة. لا شيء يدعم الحياة إلا الأفكار لفلسطين المقبلة، والمتمردة. فلسطين اقتحمت روح قرن بكامله، بروح الموروث والرمز والاسطورة.
فلسطين قطعت شوطًا كبيرًا مع قسوة القدر. آتية لا ريب، في المدى الانساني المفتوح على الرؤيا والحلم، واقعًا انسانيًا كاملًا فوق الوصف.