مقال جسور

فليقتدوا باللبنانيين

فليقتدوا باللبنانيين
* كاتب وصحافي لبناني
 
قرأت في كتاب عنوانه “الهجرة من متصرفية جبل لبنان” للدكتور عبدالله الملّاح، أن نسبة هذه الهجرة بلغت 50.94 في المئة من أقضية المتصرفية وفق إحصاء دقيق أجرته البطريركية المارونية في البلدات والقرى عام 1906.
كان للبنانيين كيانهم السياسي المعترف به والمضمون من الدول الست العظمى آنذاك، وكانت المتصرفية تعيش مرحلة إستقرار وإعمار وازدهار، رغم ذلك إندفعوا في موجات هائلة للهجرة إلى أقاصي الأرض، أميركا والمكسيك والبرازيل وكوبا والإكوادور والأرجنتين (أرض الفضة)، وأفريقيا وأستراليا، سعياً إلى الثروة وتحسين ظروف حياتهم.
 
وكنت قرأت أن ثلث أبناء مدينة زحلة قد هاجروا خلال ثلاث سنوات فقط بين 1908- 1911 للغاية نفسها.
 
لماذا يبقى الفلسطينيون في مخيمات، في دولة يستحيل أن تؤمِّن لهم الحد الأدنى المطلوب لحياة كريمة هي حق لكل إنسان على وجه الأرض؟
 
لماذا لا يحذون حذو اللبنانيين في سلوك طريق الهجرة، علماً أن أخطارها وصعوباتها كانت مهولة في تلك الحقبة مقارنة باليوم؟ 
 
من منطلق إنساني محض كنت طرحت السؤال على صديق فلسطيني، باحث متابع لتفاصيل يوميات العيش وسط البؤس المريع في المخيمات. أجابني ما مفاده “يا ريت”، وشرح عقبات تضعها حتى الدول الأقرب إلينا للقبول بانتقال الفلسطيني وإن لمجرّد العمل فيها، منها الحصول على جواز سفر من الدرجة التي تتيح له حق العودة إلى فلسطين، الأمر الذي يستلزم موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلية على إصداره له. ومنها عقبات مسؤولة عنها السلطات اللبنانية عندما يتعلّق الأمر بإصدار وثائق سفر للفلسطينيين الراغبين، تكون مقبولة من دول الهجرة.
 
والحال أن ثمة اقتناعاً آخذاً بالتوسع في صفوف الفلسطينيين بأن البقاء جيلاً بعد جيل في مخيمات لبنان، أو سواه من دول الجوار، لم يعد يقدم ولا يؤخر في استعادة فلسطين وإقامة الدولة المستقلة فيها. ولو عاد الأمر إليهم لما ترددوا في الإقتداء باللبنانيين، روّاد الهجرة والمغامرة في سبيل الإرتقاء بمستوى حياتهم وحياة أولادهم، بدل المضي في خوض حسابات بصفتهم لاجئين مع “الأونروا” ومَن خلفها، ومع السلطات سواء في لبنان أو سوريا، أو سواهما من دول المنطقة القريبة والمتخبّطة في مشكلاتها، والتي آخر همومها في الواقع حق الفلسطيني في حياة لائقة كريمة.
 
ولعلّها مصادفة معبّرة أن يتزامن تجمّع لفلسطينيين مقيمين في لبنان وسوريا طالب بحق الهجرة أمام مقر السفارة الكندية في جل الديب، الأربعاء 7 آب، مع أنشطة متعددة في المخيمات وخارجها إحتجاجاً على تدابير وزارة العمل اللبنانية، تحت شعارات منها “البلد بيساع الكل والعمل حق للكل”.
 
أصوات المتجمّعين في جل الديب، وإن كانوا أقل بكثير، كانت أقوى لأنها أصوات نابعة من معاناة أفراد ومن توقهم إلى مستقبل أفضل يحدث فرقاً شاسعاً في حياتهم. أصوات المحتجّين، على أحقيّة مطالبهم في المبدأ، لا تعدو كونها دعوات للمضي في حال نكران للواقع. ففي قرارته يعرف كل فلسطيني أن هذا البلد لبنان ضاق كثيراً، ولذلك يهاجر مواطنوه منه أفواجاً أفواجاً، وأن العمل فيه لم يعد متوافراً لأبنائه قبل غيرهم ووضعه يتجه إلى الأسوأ، ودوام الحال من المُحال. فليُخلّص نفسه من يستطيع.
 
بالطبع تقتضي العقلانيّة في هذا الوضع أن تكون الدولة اللبنانية متعاونة إلى أقصى الحدود مع من يرغب من الفلسطينيين في السفر، لا بل أن تنشئ وزارة على غرار وزارة العمالة المصرية، التي تشمل إهتماماتها إيجاد فرص عمل للعمال المصريين في الخارج، وعقد إتفاقات مع الدول لهذه الغاية، وعلى الدول العربية، جامعة ومجلس تعاون خليجي، أن تتجاوب إنسانياً على الأقل، وتتعاون لإنهاء مأساة عيش في مخيمات لا تليق ببشر، ولا يحلّها إنكار وإغماض عيون، ولا انتظار حلول نهائية لا يعرف أحد متى ستأتي.