مقال جسور

قراءة في أزمة الأونروا المالية: تفكيك ممنهج لدور الوكالة

قراءة في أزمة الأونروا المالية: تفكيك ممنهج لدور الوكالة
 باحث وأكاديمي لبناني
 
مع أن الأزمة التي تعانيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – الأونروا تتبدى مالية على صعيد تأمين الموازنة السنوية العامة وموازنات مشاريع الطوارئ بعد قرار الإدارة الاميركية الإنتقال من تجميد مساهمتها إلى إعلان وقفها بشكل نهائي، ما يدفع الوكالة إلى اتخاذ اجراءات تقشفية متعددة تطاول برامجها الأساسية، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الأزمة هي سياسية بالأساس وهي ترتبط بمحاولة فرض ما هو أبعد من “صفقة القرن” على الشعب الفلسطيني وقيادته الذي لا يزال يرفض ما تتضمّنه من توجهات تطيح قضيته، بدءاً من جعل القدس عاصمة للدولة الاسرائيلية، وتصفية قضية عودة اللاجئين إلى ديارهم، إنتهاءً بتدمير مشروع حل الدولة الفلسطينية على الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. قبل الكشف عن بنود الصفقة كما تسرّبت من مصادر متعددة، كانت السلطات الاسرائيلية قد أطلقت في الأعوام الأخيرة سلسلة من الإتهامات التي طاولت الأونروا في دورها وعملها، ووسمت برامجها التعليمية وغيرها بتهمة تشجيع الإرهاب وعدم الحيادية. وأطلق نتنياهو حملة دبلوماسية لحصار الوكالة وتقييد عملها والحد من تمويل أنشطتها وصولاً للدعوة إلى إلغائها، وإلحاق اللاجئين الفلسطينيين بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التي تشرف عملياً على حوالى 65 مليون لاجئ في العالم. 
 
في الأمم المتحدة
 
ينبع خطر الطرح الإسرائيلي الأخير كونه يحوِّل حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم إلى مشروع لتوطينهم خارج بلادهم إذا ما ألحق الفلسطينيون بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين استناداً إلى اتفاقية اللاجئين الموقعة في العام 1951 وبرتوكولاتها اللاحقة. وتمتلك ” الأونروا” تفويضاً يتم تجديده كل ثلاث سنوات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بأكثرية ساحقة، الأمر الذي يجعل سحب أو تعديل هذا التكليف من قبل إسرائيل وحلفائها أمراً صعباً للغاية. لذلك تتركز المساعي على محاولة تعطيل الأونروا من دون الغائها بالضرورة وتعديل تعريف اللاجئ الفلسطيني في القانون الدولي.
 
ففي قراءة متأنية لوثيقة حديثة صادرة عن مفوضية اللاجئين في العام ٢٠١٧، تنص في المادة واحد في الفقرتين (أ) و(ب) على ألا يستفيد من تقديمات مفوضية شؤون اللاجئين من يفيد من إحدى منظمات الأمم المتحدة الاخرى. على أن يحصل على خدمات المفوضية في حال توقف إفادته من “الأونروا” على صعيدي الحماية والمساعدة عموماً، أو في احدى مناطق عملياتها الخمس في حال “إثبات توقف هذه المساعدات جرّاء عجز الأونروا المالي أو غيره عن القيام باحدى وظيفتيها، ومن دون الضرورة أن تصل الأمور إلى إنهاء ولاية ” الأونروا”. يعني هذا التفسير الخطير أنه بإمكان خصوم ” الأونروا” إتمام نقل مسؤولياتها إلى المفوضية من دون المرور بالجمعية العامة للأمم المتحدة في حال عجز ” الأونروا” عن القيام بمهامها الأساسية لأسباب مالية. 
أما المسعى إلى تغيير التعريف الدولي للاجئ الفلسطيني، فهو يهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف في الوقت نفسه. اولاً، سحب خصوصية اللاجئين الفلسطينيين ودمجهم مع بقية اللاجئين في العالم. ثانياً، شطب حق العودة والتعويض نهائياً كما أوضحنا سابقاً. وثالثاً، تخفيض أعداد اللاجئين الفلسطينيين من ٥،٢ ملايين لاجئ مسجلين لدى “الأونروا” ليقتصر على جيل النكبة حصراً من دون المتحدرين منهم. 
 
في الكونغرس الأميركي
 
ظلت الحملة الاسرائيلية محدودة التأثير داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، حيث بقيت الوكالة تحظى بدعم كبير على مر السنوات باعتبار الولايات المتحدة أكبر مانح منفرد للأونروا. واقتصرت توجهات الإدارة على دعوة “الأونروا” لإعادة هيكلة برامجها وترشيد الإنفاق كذلك البحث عن ممولين جدد حتى ظهور “تباشير” “صفقة القرن” مع عهد إدارة الرئيس ترامب حيث طرأت مرحلة من الضغط السياسي الكثيف على القيادة الفلسطينية ودول المنطقة، ومنها تجميد المساعدة المالية لـ” الأونروا”. المواقف المعلنة من قبل صانعي “الصفقة” كانت واضحة لجهة الضغط على الفلسطينيين للجلوس إلى طاولة التفاوض على قاعدة ما تم إنجازه من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل ونقل السفارة الاميركية إليها، وإنهاء قضية اللاجئين لا سيما مع صدور قانون القومية عن الكنيست الاسرائيلي. 
 
وفي ما يشكل مؤشراً على النية بتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، كشفت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية عن رسائل إلكترونية أرسلها كوشنير، إلى زملائه في الفريق المكلف بتحضير “صفقة القرن”، داعياً إلى “بذل جهد صادق لعرقلة وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم” ( الأونروا) بإعتبارها تطيل أمد أزمة اللاجئين.
 
ووفقاً للمجلة حاول كوشنير التخلص “بهدوء” من ” الأونروا”، في إطار حملة أوسع نطاقاً من جانب إدارة ترامب وحلفائها في الكونغرس لتجريد الفلسطينيين من وضعهم كلاجئين، وإخراج قضيتهم من مفاوضات السلام مع إسرائيل. وتتقاطع هذه المؤشرات مع طرح مشروعي قانونين في الكونغرس الاميركي هما قيد الدرس حالياً حول تقليص دعم الوكالة. ويطالب الأول بموجبه الخارجية الاميركية بتقديم الوكالة لرقم تقريبي للذين تلقوا خدماتها، وتوضيح مكان إقامتهم بين حزيران/ يونيو 1946 وأيار / مايو 1948 وهل يساهم ذلك في “زيادة المصلحة الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط”. أما الثاني فيتناول المساعدات الأميركية للأونروا ويدعو إلى حصر “تعريف اللاجئ الفلسطيني باللاجئين الأصليين الذين يستوفون المعايير المنصوص عليها في المادة 101 من قانون الهجرة والجنسية الاميركي، الذي يعِّرف اللاجئين الفلسطينيين بالذين تشرّدوا خلال النكبة فقط”. ووفقا لمشروع القانون هذا، فإن “عدد اللاجئين الفلسطينيين الحقيقي الذين هجّروا إبّان النكبة لا يتعدى الأربعين ألفاً… بدون أبناء سلالاتهم، ومن المفروض أن يتم صرف الميزانيات لـ”الأونروا” استناداً إلى هذا المعطى… ويحظّر المشروع على الولايات المتحدة دفع مساهماتها المالية في ميزانية “الأونروا” إلى أن تقدم شهادات تؤكد أن أياً من متلقي خدماتها لاعلاقة له بالارهاب… أما الفلسطينيون في غزة فليسوا بلاجئين، بل هم مواطنون يعانون تحت حكم “حماس” الارهابي، كما تذكر نصوص المشروع الثاني. 
 
كل هذه المواقف كانت مقدمات توجتها الإدارة الاميركية بالإنتقال من تجميد المبلغ المتبقي من مساهمتها السنوية للأونروا ومقداره 300 مليون دولار إلى الوقف الكامل للمساعدة السنوية البالغة 365 مليون دولار وضمن وتيرة تصاعدية في زيادة الضغط على الوكالة الأممية والشعب الفلسطيني.
 
ختاماً، يردد المفوض العام للاونروا، بيير كرينبول أن أزمة “الأونروا” الحالية “وجودية”، في إشارة مبطنة إلى مشاريع استهداف “الأونروا” التي عددنا بعضاً منها. والتي في حال نجاحها ستترك تأثيرات كبيرة على لبنان والمنطقة على المديين القصير والمتوسط. فقد تسرب مما طرحه الوفد الاميركي برئاسة كوشنير لدى زيارته الاردن أن هناك إلحاحاً اميركياً على تصفية قضية اللاجئين على أرضه، باتجاه تكريس توطينهم النهائي في الأردن. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة مؤشر يشمل مناطق عمليات الأونروا الباقية.
 
التأثير المباشر سيطاول الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وخدمات اجتماعية تقدمها “الأونروا” إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذين سيتضررون بشكل مباشر من تناقص أو توقف هذه الخدمات الامر الذي سيضع أعباء إضافية على عاتق الحكومة اللبنانية مع ما قد يتهدد من هزّ استقرار المخيمات الفلسطينية. لكنّ التأثير الأكبر سيكون بإنتفاء أي إمكانية للعودة إلى فلسطين وتحول وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى أمر واقع مفروض عليهم وعلى اللبنانيين.
 
لذلك، من الضروري أن تتحرك الدبلوماسية اللبنانية في خطوات منسقة مع القيادة الفلسطينية، التي تبقى خط المواجهة الأول، وكذلك مع الدول المحورية في المنطقة حتى لا يتم تمرير الصفقة على حساب لبنان ولاجئيه.