مقال جسور
كان محطة على طريق العودة، فصار منفى حقيقياً

*صقر أبو فخر
كان اسمه، منذ نحو سبعين عاماً، حرج شاتيلا أو رمل شاتيلا. واللاجئون الأوائل ضربوا خيامهم فوق الرمال في البداية، قبل أن يتحول المكان في عام 1959 إلى مخيم رسمي تحت رعاية الأونروا. وفي هذه البقعة عاشت جموع من الناس المتحدرين من قرى الجليل مثل مجد الكروم والبعنة وشعب والصفصاف ونحف والبروة ودير القاسي والياجور وغيرها. وبالتدريج تزايد السكان حتى وصل عددهم إلى نحو 12 ألفاً غير الفدائيين وأعضاء المنظمات السياسية الفلسطينية التي تألقت بعد معركة الكرامة في عام 1968. تحول مخيم شاتيلا إلى ما يشبه “فلسطين الصغرى”. وفي هذا المكان، مثل بقية الأمكنة الفلسطينية، تعلّم اللاجيء كيف يُحافظ على روابطه العائلية، وعلى لهجة آبائه، وعلى ميراثه الانساني غير المادي، وحتى على انقساماته العائلية الموروثة. وكان عليه أن يرحل بخياله في كل يوم إلى وطنه المتخيّل كي يصوغ هويته في المنفى؛ هذه الهوية الناقصة والموشومة بالنار، لأن موطنه الواقعي، أي لبنان، يعزله ويرفضه ويلفظه، وموطنه الأصلي بعيد، ولا ينفك يتناءى ويتباعد.
كان مخيم شاتيلا في مرحلة النهوض الوطني الفلسطيني ميدانًا لتطوير الوطنية الفلسطينية وصُنع الهوية الجديدة، أي هوية التحرر الوطني بدلاً من هوية المنفى. وكان، في الوقت نفسه، يشكل مساحة للحلم بحق العودة. وكان المخيم وطنًا موقتًا، ومحطة على طريق العودة. أما اليوم فقد صار منفى حقيقياً، أو مجرد استراحة على دروب الرحيل، أو مأوى للأيدي العاملة الرخيصة. وكان النطاق الاجتماعي لمخيم شاتيلا يتمدد نحو الضاحية الجنوبية حيث مخيم برج البراجنة وبعض الأحياء التي سكنها الفلسطينيون منذ سنة 1948 كالرويس والغبيري، ويتوسع نحو قلب بيروت حيث يقع مخيم مار الياس، علاوة على الجوار الأهلي المباشر في حي صبرا البيروتي قبل أن يلتحم المخيم وهذا الحي في مصير مشترك، وكذلك حي فرحات وشارع حمد والطريق الجديدة. غير أن نطاق المخيم اليوم بات ضيقاً جداً جرّاء التحولات الديمغرافية المتسارعة التي بدلت هيأته خلال خمس عشرة سنة بين نهاية حرب المخيمات في سنة 1988 وبداية انحسار الانتفاضة الثانية التي سبقت اغتيال الرئيس ياسر عرفات في سنة 2004. ومنذ ذلك الوقت بدأ الأمل يتضاءل، وراحت النخب تضمر وتهاجر.
فَقَد مخيم شاتيلا فرادته، وها هو الآن يكاد يندثر لولا النواة القديمة التي ما برحت صامدة حول المسجد ومقبرة شهداء المخيم (غير مثوى شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا) ومرقد علي أبو طوق، وحول الأزقة الأصلية وسكانها القدامى ومنازلهم الباقية. ومنذ أكثر من خمس وأربعين سنة شرع الشبان الفلسطينيون، خصوصًا من أبناء شاتيلا وبرج البراجنة وتل الزعتر وضبية، يتجهون في هجرات فردية إلى مدينة برلين في البداية، ثم تزايدات جموع المهاجرين غداة حرب 1982 ومغادرة القوات الفلسطينية لبنان. وفي تلك الأثناء، وجرّاء ما نزل بالمخيم من ويلات (الحرب الأهلية اللبنانية وحرب 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا وحرب المخيمات)، غادر سكان المخيم بيوتهم إلى الأحياء القريبة مثل الطريق الجديدة، وعكفوا على تأجير منازلهم إلى الأيدي العاملة المهاجرة كالسوريين والمصريين والهنود والبنغال وغيرهم. وقبل ذلك كان الفلسطيني من سكان هذا المخيم كلما تحسنت أحواله، خصوصاً إذا كان يعمل في إحدى دول الخليج العربي، يشتري لوالديه منزلاً في الأحياء المجاور ويؤجر منزل والديه في المخيم. وبالتدريج راح المخيم يفقد سكانه، وراح السكان يفقدون مخيمهم الذي لاذوا به طويلًا، وكان ملجأهم طوال أكثر من ربع قرن بعد النكبة.
حالت السياسات الرسمية اللبنانية دون اندماج المخيم بمحيطه الحضري ولو حتى في النطاق البلدي. وكان خطاب الضحية الذي شاع لدى الفلسطينيين قد جعلهم لدى بعض الفئات اللبنانية كائنات إثنية مثيرة للريبة. ومع أن الفلسطينيين كرروا مراراً أنهم لن ينسوا ما حلّ بهم، لكنهم غفروا لكل من أساء إليهم، واعتذروا من كل من أساؤا إليه، إلا أن التحولات اللبنانية نفسها كانت تحيد عنهم؛ فاذا كانت سلبية انعكست عليهم بسلبيات شتى، وإذا كانت إيجابية فإن ثمارها لم تتساقط عليهم. ففي ذروة إعادة إعمار لبنان وتدفق الأموال على هذا البلد في حقبة الرئيس رفيق الحريري، تلقى الفلسطينيون صدمتين: منعهم من التملك، وفرض تأشيرة خروج ودخول عليهم. ومع أن الثانية أُلغيت لاحقاً، غير أن الأولى ما زالت سارية.
إن بقايا الفلسطينيين في مخيم شاتيلا اليوم، مثلهم مثل بقية الفلسطينيين في لبنان، ما عادوا مشغولين بالأوضاع السياسية اللبنانية، إلا في الحدود التي تطال حياتهم اليومية مباشرة. وهم باتوا مثل جميع الناس لا يهتمون بسوى شؤونهم الضيقة بعدما عاشوا مشدودين إلى الحياة السياسية اللبنانية وأحزابها ومشكلاتها. وجميع الكلام على السلاح والتوطين والحقوق المدنية مثل حق العمل وحق التملك وحق تأليف الجمعيات، تلاشت اليوم في خضم الأهوال التي يعيشها لبنان حتى كاد لبنان نفسه يتلاشى. والفلسطيني في مخيم شاتيلا يحتاج بالتأكيد إلى الحماية والرعاية. لكن السلطات اللبنانية المتعاقبة التي فشلت في حماية شعبها ورعايته، وسرقت أمواله ولفظته إلى جحيم البطالة، كيف يمكنها أن تحمي الفلسطينيين وترعاهم؟ وهل يُطلب من الدولة اللبنانية اليوم أي مطلب فلسطيني خاص؟ على الفلسطيني أن يتعود قلع أشواكه بيديه في هذه المرحلة، وعليه واجب أكيد نحو المجتمع اللبناني هو مكافحة الانجراف إلى التعصب المذهبي في المخيمات، وعدم المس بالأمن الوطني اللبناني كإطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، وهي صواريخ بلا قيمة عسكرية أو سياسية، وربما كانت موظفة في خدمة جهات إقليمية لا يهمها البتة مصير لبنان ومصير الفلسطينيين.
إن تهميش الفلسطينيين في لبنان، والغربة التي خضع لها الفلسطينيون في هذا البلد (ومخيم شاتيلا نموذج صادق لذلك) أدى إلى أن يدير الفلسطينيون ظهورهم للمجتمع اللبناني باستثناء النخب القديمة والناشطين الجدد، ويلهثون في البحث عن مخارج من غربتهم وتهميشهم. وهذا هو العيش المضطرب للفلسطيني في لبنان الذي يتخذ أشكالًا متعاكسة أحيانًا. وفي سياقه تنمو مجموعات شبابية وإعلامية وتواصلية وفنية و رياضية. والدافع إلى ذلك هو التصدي للغربة من خلال تطوير هوية فلسطينية قادرة على البقاء والصمود والاستمرار في عالم مضطرب كالمجتمع اللبناني. والمفارقة المؤلم انه ما إن تتاح لأحد الناشطين فرصة ما للهجرة حتى يرحل فوراً. لذلك افتقر المخيم في لبنان، للنخب الراسخة مع أن الفلسطينيين في لبنان كانوا رواداً في مجالات شتى خلال العقود التي أعقبت النكبة.
* صحافي وباحث فلسطيني