ناشط للسلام والتغيير، نائب رئيس جمعية “محاربون من أجل السلام”
لن يُفهم ما أقوله اليوم- إن لم اعبِّر رغم صعوبة الموقف – عن رأيي بالفلسطيني في مرحلة شبابي، أي قبل وخلال الحرب الأهلية. خلال فتوّتي لم أرَ أيّ لاجئ فلسطيني في لبنان، إذ لم أنظر إليه كلاجئ أبداً. أول صورة أتذكرها عنه هي وجوده العسكري وسلاحه الظاهر علناً، ثم اخبار حصول اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين وسلاح الشرعية، كما سلاح الميليشيات المسيحية. أذكر كيف شعر مجتمعي حينها بالإهانة والخوف، ثم بالغضب. أما الضربة القاضية فكانت في إتفاق القاهرة الذي وقّع عليه لبنان مرغماً ومذلولاً.
لا أذكر الفلسطيني كفرد وإنسان، إنما كمجموعة مسلحة تضع وطني وأمني وأمن “جماعتي” في خطر، وتعمل على تغيير هوية لبنان وعلى “أسلمته” و”عربنته”. تطوّرت نظرتي إليه بعد أحداث 1973 إثر تشكيله خطراً داهماً ومحاولته وضع اليد على لبنان لتحويله إلى وطن بديل برضى برضا وإذعان من الشريك المسلم.
أصبح الدفاع عن الوطن والذات واجباً أدى إلى انخراطي في الحرب الطويلة التي بدأت حرباً لبنانية ضد المحتل الفلسطيني، ثم تحوّلت إلى حرب أهلية بين اللبنانيين، ثم الى حروب عديدة محلية أو مع قوى إقليمية. كرهتُ الفلسطيني المسلّح، ثم كرهتُ شعبَه الذي يوافق على أعماله ويعتبره جيشه إذا لم يكن متواطئاً معه.
لعلي، وضمن عملي الأمني في الحرب لم أواجه مدنيين فلسطينيين، فلم اضطر إلى أن اختار الحياة أو الموت لهم، كما فعل البعض، إنما تعاطيت مع جسمهم العسكري والسياسي. وكانت مهمتي، عدا التجسّس، تدميرهم سياسياً وعسكرياً وأمنياً وكذلك التخلص من قياداتهم. قمت، وبإصرار، بما اعتبرته واجبي في هذا المضمار، من قتل وتدمير واغتيال.
يوم هُجِّرنا إلى زحلة بعد الانقلاب الدموي على الاتفاق الثلاثي، وكنت أحد المفاوضين، أصبحنا فجأة لاجئين مرفوضين من أهلنا لإننا خُوِّنا، كما كنا مرفوضين من أهالي زحلة. كنا أيضاً في البداية مرفوضين من المحيط الجديد الوطني–الإسلامي-الفلسطيني،مُلاحَقين بعمليات اغتيال من هنا وهناك. عبرت زوجتي أمام مجموعة غريبة ذات مرة ، وفي تلك المرحلة فهِمَتْ، كما فهمتُ أنا أيضاً، حال الفلسطيني المرفوضة عودته إلى وطنه، وهو مرفوض حتى من أخوته العرب ومن العالم أجمع ومهدّد دائماً بالقتل والإبادة.
تغيير روحي وإنساني وضعنا أنا و زوجتي في عالم جديد التقينا خلاله بالآخر، وبعض من الآخرين كان الفلسطيني في لبنان، الذي تحوَّل مع الوقت إلى إنسان يحمل أسماء مثل أسامة وعاصم وأحمد ومحمد وغابي. إستمعت إليهم واستمعوا إليّ. سمعوا كل ما كان يجول في قلبي كما اسمعوني كل ما في قلوبهم.
الحوار معهم غيَّرني،ثم تعرفت على بعض رموز السفارة الفلسطينية في لبنان. منهم من أصبح صديقاً عزيزاً اليوم، ومنهم من استشهد ويا للأسف. بعض الزيارات إلى المخيمات وبعض الحوارات أشعرتني بالجهل الكلي عن أحوال هذه الشريحة المظلومة من الناس، وكأنه لا يكفيهم اقتلاعهم من بلدهم. أحسست بالخجل والحزن أيضاً، بدوا وكأنهم “إصبع ممدود صوبنا” تتهمنا بالتقصير الدائم وقلة الإنسانية. كيف يمكننا أن نتهم هؤلاء بالعنف والغضب والعمالة لبعض المرجعيات وهم يعيشون ما يعيشونه؟ لماذا لا نعرف كفاية عن احوالهم وضيق الحال عندهم وصعوبات حياتهم؟ لماذا لا نسمع فقط عنهم سوى السلبيات؟ طبعاً لم أحاول ذلك في السابق، وهذا ما جعل مني مسؤولاً عمّا يعانونه.
الكثير من اللبنانيين ومنهم المسيحيون لا يزالون يبغضون الفلسطينيين، والعكس صحيح أيضاً. هذا الأمر طبيعي بعد حرب سقط فيها عشرات الألوف من المدنيين والعسكريين من الجهتين، وارتكبت المجازر من هنا وهناك.
ولولا مبادرة “رسالة فلسطين إلى لبنان” في كانون الثاني 2008، لبقيت الأوضاع على حالها. لكن ويا للأسف، لم يلِ ذلك الإعلان عمل دؤوب نحو العدالة الانتقالية وصولاً نحو مصالحة حقيقية بشروطها الخمسة وهي: الحقيقة، والفاعلون، وطلب المسامحة والمصالحة والتعويض، وصولاً إلى بناء المؤسسات والعلاقات الكفيلة بأن لا تسمح بتكرار احداث وحروب مماثلة بين اللبنانيين والفلسطينيين.
هجرة معظم الفصائل الفلسطينية المسلحة من لبنان وقرار القيادة السياسية الفلسطينية عدم التدخل والتعاطي في الشؤون اللبنانية، أمران جيدان جداً، لكنهما خطوة ناقصة وغير كافية لرأب الصدع بين الشعبين.
أدعو القيادة الفلسطينية، كما السلطات اللبنانية والمجتمع السياسي والأهلي في لبنان، إلى فتح ورشة حوار حقيقي تقودنا إلى المصالحة الفعلية. كفانا حوارات شكليّة. لننتقل إلى العمل الميداني وعلى مستوى الناس والضحايا والمفقودين والمهجّرين إلى الداخل أو إلى الخارج، وخصوصاً في المناطق التي شهدت مواجهات مباشرة بين اللبنانيين والفلسطينيين الذين أصبحت أُناديهم أخوة وأناساً. تعالوا ننظم رحلات لزيارة المخيمات حتى نفهم جميعاً ما يعانيه الفلسطينيون، أو بالأحرى أن نكتشف الأذى الذي نسبّبه لهم بسبب مخاوفنا من توطينهم أو من استعمالهم سياسياً وأمنياً.