مقال جسور
لاجئون لبنانيون إلى المخيم

* صحافي فلسطيني سوري
“الضمّة بألف ليرة”، هكذا تنادي أم حسين بصوتها المبحوح والخجول على الحشائش التي تضعها على عربةٍ خشبيةٍ كهلة، وتجوب بها أزقة مخيّم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين وزواريبه.
بتعب، تدفع أم حسين تلك العربة ذات العجلات النحيلة، ويناظرها سكان المخيم بعين من الذهول والاحترام ويصفونها بـ”أخت الرجال”. تنادي على بضاعتها بلهجة تختلف قليلاً عن اللهجة الفلسطينية المحكية في المخيم، فهي ليست بلاجئة جاءت من فلسطين ولها ذكريات مع النكبة، بل هي لبنانية وجدت في جموع اللاجئين ملاذاً آمناً لها.
جاءت أم حسين إلى المخيم منذ عشرين عاماً مع ابنتيها وطفلها الرضيع بعد أن هجرها زوجها وتركها وحيدة تواجه مآسي الحياة، فقررت اللجوء إلى المخيم لما وجدت فيه من قدرة على التأقلم مع الفقر والقهر.
تقول ندى، وهو إسمها الصغير،”المخيم بيعنيلي أكتر من أي منطقة تانية، وأنا وصيتي إانو بس موت يدفنوني بالمخيم”.
ليل الشتاء في منزل أم حسين- إن صح تسميته منزلاً – يعود بك إلى العصور الوسطى. فبعد أن تُفرِغ بعض الأخشاب التي تجمعها أثناء تجوالها بعربة الخضروات؛ تقوم بإشعال وعاء من القصدير كوسيلة للتدفئة، وتُنير الشموع – ليس حباً بالرومانسية – بل لأنها لا تملك إشتراكاً للكهرباء لتضيء بها عتمة البيت. أما عن الإنترنت، فعليك أن تسأل أصلاً إذا كان لديها هاتف محمول!
أم حسين لم تصل بعد إلى عتبة الخمسين عاماً، لكن من يراها يظنها في السبعين. تجاعيد وجهها تروي قصصاً شتى من اللجوء والتعب بالرغم من أنها لم تولد لاجئة.
تقول “أنا ربّيت ولادي كل شبر بتعب وهمّ ودموع. كثيرة هي الليالي التي مرت علينا من دون طعام، لكن ما يعزيني في ذلك أن المخيم يحوي الكثير الكثير من أشباه حالتنا ويلي بيصير عليّ بيصيرعلى غيري”.
ليس بعيداً من مخيم الرشيدية، تغزو الأمطار منزل أبو بشارة في مخيم البرج الشمالي، فيتحوّل سقف منزله إلى أشبه بغربال تخترقه المياه. ولا خيار له سوى توزيع الأواني المعدنية في زوايا المنزل لدرء المياه، حتى أنه يضع وعاءً في فراشه! وغالباً ما تستخدم أم بشارة ما تفيض به هذه الاواني من مياه لأغراض التنظيف.
عندما تدخل إلى منزل أبو بشارة، يستقبلك عناق العلمين الفلسطيني واللبناني يرتخي في ظلّهما صليب المسيح وصورة ليسوع وهو في حضن أمه. هكذا تحتضن أم بشارة زوجها مطانيوس حداد أبو بشارة، اللبناني المسيحي الذي يسكن مخيم البرج الشمالي للاجئين الفلسطينيين منذ اكثر من خمسين عاماً.
هو من رجالات المخيم، يعرفه الناس كشخصية ذي أهمية، من الوجاهات المحلية لحلّ المشكلات ولطلب العرايس. يعرف الكبير والصغير والأنساب وحتى الزواريب. يضحك عندما يجد من يستغرب كيف للبناني مسيحي أن يعيش في المخيم، وكيف يستطيع التأقلم مع نمط حياة مختلفة كهذه. تجيب أم بشارة عن هذا التساؤل، بالقول “بس تزوجت بنتي حاول صهري إنو نسكن معهن برا، بس أنا إذا غبت يومين عن المخيم الكل بيصير يدقلّي ويبعتلي ويتطمّن عني، وحياة محمد ويسوع يلّي لقيتو بالمخيم ما لقيتو بمطرح تاني”.
وبالرغم من لبنانيّة أبو بشارة إلاّ أنه لا يستطيع ترميم منزله وسدَّ ثقوب سقفه لأنه يحتاج إلى تصريح لإدخال مواد الاعمار، حاله كحال اللاجئين في المخيم.
عند سؤاله “هل تحب فلسطين ياعم؟”. تدمع عيناه وقد فقد منهما البصر بنسبة خمسين في المئة. ويجيب ” فلسطين غالية يا عمي. أنا التحقت بالثورة الفلسطينية قبل الفلسطينيين”.
تفتك الأمراض بجسم أبو بشارة الثمانيني، من سكّري وضغط وقلب وشرايين وغيرها. ويعاني من تأمين الدواء اللازم كونه لا يستفيد من “الأونروا” لأنه غير فلسطيني ولا تمد له الجهات اللبنانية يد العون. ومما زاد الطين بلّة، هو حسم نصف راتب ولده المعيل بسبب الأحداث الجارية في البلد.
لم تسمح جنسية البلد الأصيلة لأبو بشارة أن يؤمِّن دواءه، ولا لأم حسين أن تسترد صباها، فعاشا لاجئين في بلدهما.