مقال جسور

لبنان بين لجوءٍ ونزوح: كيف نُنقذ الكيان والإنسان؟

لبنان بين لجوءٍ ونزوح: كيف نُنقذ الكيان والإنسان؟
الرئيس السابق للجمهورية 
 
لعالم بأسره في حراك لمواجهة تداعيات أزمات الهجرة واللجوء والنزوح. لكلٍ أزمة من هذه الأزمات مسبباتُها وتداعياتُها على المستويات الاقتصادية – الاجتماعية، والأمنية والقانونية، لكن حتماً يبقى أساس النقاش في هذه الأزمات قائماً حول حماية الهوية الوطنية للبلدان المضيفة، كما العمل على عودة المهاجرين واللاجئين والنازحين الى بلدانهم الأم حمايةً أيضاً لهويتهم الوطنية، وتفادياً لاستعارِ توتراتٍ حول منظومة المصالح المشتركة بين المواطنين الأصليين من جهة، والوافدين قسراً اليهم من جهة أخرى. وإشارتي إلى المصالح المشتركة تعني ضمناً الموارد الطبيعية ذات الصلة بتوفير مقوّمات الحياة الكريمة لهؤلاء وأولئك، لكن أيضاً اشارتي أريد فيها الذهاب أبعد بإتجاه إدارةٍ سليمة للتعدّدية. هذه الإدارة السليمة للتعدّدية باتت في مأزقٍ كياني بسبب تداعيات الهجرة واللجوء والنزوح، وبالتالي نحن نعايش أزمات هوية أكثر منه أزمات موارد ومصالح.
 
في أيّ حال وبالاستناد الى ما سبق، ها هو لبنان، وبعد نكبة اللاجئين الفلسطينيين في العام 1948، وما نتج عنها من مواجهات عنيفة دامية لحماية لبنان – السيادة كما تصويب مسار المقاومة الفلسطينية باتجاه العدو الحقيقي، وقد تناولنا ذلك بجرأة في لقاء “المصارحة والمصالحة” الذي إنعقد في بيت الكتائب المركزي  بتاريخ 15 نيسان 2008 في ذكرى 13 نيسان، وكان إلى جانبنا المعنييون بهذه الحرب، لاسيما منظمة التحرير الفلسطينية وأركانٌ من الحركة الوطنية. وبعد قيام لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني منذ تأسيسها في العام 2005 بجهود جدية لترميم الذاكرة اللبنانية – الفلسطينية، بعد كل هذا تفاجأنا بالحديث عمّا اصطُلح على تسميته بـ”صفقة القرن”، التي تعمل لها واشنطن وغيرها، ليُطِل من جديد علينا هاجس تصفية القضية الفلسطينية، وبالتالي إمكانية فرضِ توطين للاجئين الفلسطينيين في لبنان. وقد يكون اقرار الكنيست الاسرائيلي قانون القومية اليهودية لإسرائيل تعبيراً عن استمرار محاولات اجهاض حق العودة لهؤلاء ما ينزع عنهم حقهم الانساني والوطني. 
 
فماذا يفعل لبنان أمام كل ما يعاد تسويقه من حلولٍ على حساب حقوق الشعب الفلسطيني كما سيادته؟
 
وأضيف إلى نكبة اللاجئين الفلسطينيين المستمرة، أزمة النازحين من سوريا قسراً هرباً من الحرب منذ العام 2011، وقد فشِل لبنان في إدارة تنظيم وفود هؤلاء كما وجودهم، حتى إنهم تشتّتوا في المجتمعات اللبنانية المضيفة، ولم يعُد من قدرةٍ على ضبط وضعهم، وتنافَرَ الموقف اللبناني حول آليات عودة هؤلاء، وقناة المفاوضة لهذه العودة. وإذا ما كانت روسيا قد أطلقت مبادرة جدّية، ولو غير مكتملة. وفي النقاش العملاني في عودة النازحين الى سوريا، فإن لبنان أيضاً انقسم على نفسه، ولم ينجح في إنجاز سياسة موحّدة تجاه إدارة أزمة النزوح ومقتضيات العودة. فماذا يفعل اللبنانييون إزاء هذه الأزمة مع ما يُسَوَّق من مشاريع فدرلةٍ وفرزٍ ديموغرافي مذهبي – طائفي في سوريا ما قد يشي بالإعداد لتوطينٍ ما على حساب حقوق الشعب السوري كما سيادة لبنان؟
 
هذان الاستحقاقان المفترضان اللذان ذكرنا يضعان لبنان أمام مسؤولية تاريخية، وأمام تحدٍّ وجداني، وأمام إصرار على النضال لإحقاق العدالة. فلطالما كنا الى جانب القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وحق لاجئيها بالعودة. ولطالما رفضنا الظلم في سوريا كذلك الإرهاب، ودعَونا إلى وقف الحرب واحترام خيارات الشعب السوري بالحرية والديموقراطية، وموقفنا حاسمٌ لجهة حق النازحين بالعودة إلى سوريا صوناً لتعددية نسيجها المجتمعي وهوية أبنائها الوطنية.
 
لكن هذه الرؤية الواضحة أمام الاستحقاقين التي هي نظرياً في عُهدة لبنان الرسمي، الظاهر أنها ما زالت شعارات تفتقر الى استراتيجية لبنانية متماسكة لإنجاز حراكٍ وطني فيها، كما اطلاق دينامية تأثيرٍ لهذا الحراك على المستويين الإقليمي والدولي. الديبلوماسية اللبنانية مقصِّرة، وعلى الأرجح، على ما نُعايِنُه، اختارت الشعبوية بدل الحِكمة البنّاءة. 
 
العالم العربي حليفٌ وصديقٌ للبنان. والمجتمع الدولي حليفٌ وصديقٌ للبنان. هذان الحلفان والصداقتان لا يثمران إن قاربناهما تارة بالمواجهة، وطوراً بالاتهام الاستنسابي، أو عموماً بالتقصير وفقدان الرؤية. فِعل الديبلوماسية الفعّال لا يكون سوى بفَهمِ المقوّمات الشَرطيّة للحظة التاريخية الراهنة، والاستعداد الوقائي لهذا السيناريو أو ذاك.
 
فعل الديبلوماسية الفعّال لا يكتفي بمناقشة خياراتٍ يطرحها هذا أو ذاك، بل يسعى لطرح خياراته انطلاقاً من الواقع اللبناني والعربي والدولي، ومن مقتضيات الأمن القومي للبنان والمصلحة الوطنية العليا. ما يؤرقنا أن الدولة اللبنانية غائبة عن مواكبة المقوّمات الشَرطيّة للحظة التاريخية الراهنة، وأساسها وعي خطورة ما يمكن أن يُعرَض ترغيباً أو ترهيباً لإجهاض حق العودة للاجئين الفلسطينيين من ناحية، أو عرقلة مسار عودة النازحين من سوريا من ناحية أخرى. وما يؤرقنا أيضاً أن الدولة اللبنانية تتلهي بمسائل تفصيلية لا ترقى إلى إمكانية مواجهة المخاطر الوجودية التي تتَهّدَّد لبنان بتعدّديته كما تهدّد حقوق اللاجئين والنازحين بالعودة. كما أنه لا يوجد أي مسعى من أجل تعبئة القدرات الوطنية من أجل التفاهم على خارطة طريق وطنية جامعة تنقذ البلاد.
 
هل نحن فيما قاربناه من أرقِنا تجاه غياب الدولة اللبنانية عن التموضع في فعل ديبلوماسي فعّال، هل نحن أمام لا أفق؟ حتما الاستسلام والاهمال يغتالان فرضية الأفق المفتوح. لكن التجارب المؤلمة التي عشناها في لبنان، وقد أنشأت فينا إصراراً على النضال لحماية لبنان القضية بما هو رسالة حضاريّة كما عبّر عنها البابا القديس يوحنا بولس الثاني، هذه التجارب تؤكد لنا أن الأفق غير مسدود إن أحسنّا الحوكمة أقلّه في قضيتي اللاجئين والنازحين. وهذا يتطلب استنفاراً وطنياً لبلورة مساحات مشتركة ينتصر فيها الانخراط في تشييد عمارة السياسات العامة بدل الانزلاق في دوّامات الصراع حول الحصص على أشلاء ما تبقّى من دولة. والمساحات المشتركة تبنيها برامج واضحة كتلك التي حملتها الجبهة اللبنانية، والحركة الوطنية، وقد تلاقينا معاً من ثم واستقينا العبر من أخطاء هذه البرامج واضعين لبنان فوق كل اعتبار، وتوافقنا على تفادي هذه الأخطاء ليبقى إنسان لبنان همَّنا. ومتى قامتِ المساحات المشتركة في قضيتي اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين بما يعني الانتصار لعودتهم، يُقتضى التوجّه إلى جامعة الدول العربية، ومجلس الأمن، ويُقتضى تحريك مجموعة الدعم الدولية، بناءً على ملفّاتٍ لبنانية دقيقة المعالم فيما يريده لبنان لذاته من أصدقائه وحلفائه بدل الترقّب المشلول لِما سيُفرَض من أجنداتٍ مشبوهة.
 
كلُّ هذا لن يحصل إذا لم نَعُد لإنتاج قضية الكيان والإنسان. نحتاج جبهة للبنان الحياد الإيجابي، لبنان الحر السيّد المستقل الديموقراطي. لبنان المؤثِّر. لبنان الرافض للاستباحات.