مقال جسور
لبنان كمخيم فلسطيني كبير!

*وسام سعادة
يصيب الانهيار الاقتصادي وانسداد الأفق السياسي مختلف جوانب الحياة في لبنان ويجعلها أصعب على الجميع. إنمّا بتفاوت بين المراكز والأطراف، بين الطبقات والشرائح والمهن المختلفة.
وبالقدر نفسه الذي يفرز فيه “زمن الانهيار” موجة تهجيرية جديدة لقسم من اللبنانيين الى الخارج، فإنّه يثقل أكثر من اي وقت مضى على كاهل مجتمعي اللاجئين، الفلسطيني والسوري في لبنان.
والى حد بعيد، يبدو اللاجئون الفلسطينيون من جملة الفئات الأكثر معاناة ومكابدة لتداعيات هذا التصدّع الاجتماعي والسياسي، ما يطرح جملة عناوين واستفهامات حول الإغاثة المضاعفة. إغاثتهم كلاجئين، وإغاثتهم كلاجئين في بلد يقاسي هذا النوع الحاد من الأزمات الاقتصادية.
في بلد عالقة فيه أموال المودعين في المصارف وهيهات تحصيلها إلا الفتات منها، ومقطوعة فيه سبيل الأرزاق، بين أجور ورواتب خسرت في غضون عامين تسعين بالمئة من قيمتها، أضف لازدياد البطالة بشكل غير مسبوق، والحديث عن ثلاثة أرباع السكان تحت سقف الفقر، بات يبدو حال البلد نفسه مثل مخيم لاجئين كبير، تشكل مخيمات اللاجئين فيه، بالاضافة إلى أحزمة الفقر المزمنة حول المدن الأساسية، حالة منكوبة أكثر من سواها.
هذا والفلسطينيون ممنوعون عن ممارسة مهن عديدة، ولم يحصلوا على حقوقهم المدنية، بدعوى ان ذلك يميّع قضيتهم كلاجئين، ويسوِّغ عملية تقبل توطينهم على المدى الأطول.
لقد سبق شباب المخيمات انتفاضة 17 تشرين 2019 ببضعة أشهر، بالحراك الاحتجاجي على أوضاعهم، ورفضاً لاجراءات وزارة العمل آنذاك بإزاء العمالة غير اللبنانية. تماماً مثلما سبقت أزمة الأونروا المالية المتأتية من عدم التزام الدول المانحة بتعهداتها بشكل مزمن، انفجار أزمة النظام المصرفي والمالي اللبناني، التي بدأت كأزمة شح الدولار وتجذّرت كأزمة إفلاس شامل ومكابر عليه، للدولة والمصرف المركزي والمصارف التجارية.
والحال أنه لا يمكن التعامل مع حراك المخيمات قبل أشهر من الانتفاضة اللبنانية بمعزل عن السياق الاجتماعي للتدهور والتصدّع في البلد ككل، وعملية الإفقار التي ازدادت حدة وشمولية قبل سنوات من انفجار التناقض الاجتماعي في المركز نفسه، من خلال تظاهرات 17 تشرين والأيام التالية في بيروت، وانتشار الوثبة الجماهيرية لأسابيع مدوية على معظم الخارطة اللبنانية.
بيد أنّ العمق الاجتماعي لانتفاضة خريف 2019 جرى طمسه بشكل سريع بدعوى أنّ “المشكل سياسيّ أولاً”، قبل ان يجري ابتذال التسييس السريع والفاقد للعمق الاجتماعي إلى رزمة من التصورات الاجرائية والتكنوقراطية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، استخدم بعض أركان التركيبة المسيطرة دعوى أن الانتفاضة فقدت طابعها كانتفاضة فقراء سريعاً، في سياق عملية تقويض وتفتيت الحيوية الشعبية ككل، واحباط جيل شبابي بكامله، سرعان ما انقلبت حماسته التغييرية الزائدة إلى انكسار مؤلم.
واليوم، بعد عامين على كل من حراك شباب المخيمات في كل لبنان ثم انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين تأتي القضية الاجتماعية لتطرح نفسها في ظروف كابوسية، يتبارى فيها انهيار سعر صرف الليرة الفعلي مع الارتفاع الجنوني للأسعار، مع أزمة بدء رفع الدعم عن السلع، ومشاهد طوابير استرقاق الناس على محطات البنزين. ويغيب في كل هذا المشهد طرح القضية الاجتماعية بحد ذاتها من حيث هي قضية ارتباط انهيار النموذج الاقتصادي المهيمن على تاريخ لبنان المعاصر، وبشكل اكثر ضراوة بعد الحرب بهذا الكم من الظلم الاجتماعي ضد الطبقات الشعبية، وضد العاملين بأجر بشكل خاص أياً كانت جنسيتهم على الأرض اللبنانية. وهذه القضية الاجتماعية لا تنفصل عن تلك السياسية، وبالأخص منها السيادية، المتمثلة باستتباع الدولة اللبنانية لسواها في الاقليم، ولعدم قيام حاكمية القانون على كامل اراضي الجمهورية، وعدم امتلاك الدولة قرار الحرب والسلم، أو سياسة خارجية خاصة بها.
والقضية الاجتماعية بقدر ما أنها مغيبة في عز الانهيار الاقتصادي، فإن السلم الاجتماعي ينخر أكثر فأكثر بعناصر التصدّع والهريان، وبشكل ينذر باستفحال الحال أكثر فأكثر. وكل هذا يعود فيطرح وضع الفلسطينيين في لبنان، داخل المخيمات وخارجها، كفئة تصيبها موجة تمادي الإفقار حالياً أكثر من سواها، وكفئة معرضة بشكل إضافي للاجراءات التمييزية من جهة، ولتداعيات أزمة الاونروا من ناحية ثالثة، اضف لاستمرار جولات وباء كورونا، ما يجعل ظروف معاش المخيمات المكتظة لا يحتمل. ويزيد على ذلك ازمة الفصائل الفلسطينية نفسها، التي اظهر حراك الشباب الفلسطيني ضد وزارة العمل اللبنانية قبل عامين، ان هذا الشباب بات وإلى حد كبير بعيداً عن “زمن” هذه الفصائل.
لقد بات الوضع الحالي لا يُطاق بالمرة، إن بالنسبة للبنانيين أو بالنسبة للفلسطينيين على الأرض اللبنانية. يعيش اللبنانيون اليوم بشكل عام وضعاً مخيماتياً تعيساً، مثلما يقاسي الفلسطينيون تداعيات أزمة انهيار النموذج الاقتصادي اللصوصي والفاشل، وأزمة انسداد النموذج السياسي “التوافقي” غير العقلاني والمحكوم بعلاقات التغلب بين الجماعات، والاستقواء بالخارج.
ومثلما أنه تجري المحاولة بشكل دؤوب لاختزال أساس معالجة الانهيار الاجتماعي في عملية محاصرة أمنية لاحتمالات الانفجار في المناطق الأكثر فقراً، كما حصل في طرابلس مراراً، فإنّ من السوء بمكان، اليوم اكثر من أمس، التعامي على الواقع المتفاقم للفقر والبؤس والبطالة العارمة في المخيمات، والجنوح الى حصر كل هذا الواقع في بعده الأمني.
مصير كل الطبقات الشعبية في هذا البلد مترابط، وإن لم تظهر حركات واسعة تطرح المصالح المشتركة للطبقات الشعبية على اختلاف الانتماءات. لأجل ذلك، اليوم أكثر من ذي مضى، هناك مشترك معاناة اقتصادي اجتماعي بين السواد الأعظم من الفلسطينيين في المخيمات وبين الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، في حين ليست هناك حركة مواجهة مشتركة لهذا المصير القاتم، على صعيد الطبقات الشعبية، سواء بالنسبة للبنانيين أو بالنسبة للفلسطينيين. الفارق كبير بين الاشتراك في المصيبة، وبين عدم وجود قاعدة فعلية في الوقت الحالي لتحويل هذا الاشتراك في المصيبة إلى تشارك في مقاومة اجتماعية لهذه المصيبة. ولن يتحقق مثل هذا الأمر بالتمني. والكارثة تزيد أكثر فأكثر لأن مثل هذا الأمر لم يجر الاستعداد له في العقود الأخيرة ابداً، ومن الصعوبة توليده فقط في زمن الانهيار. إلا أنه، لا يمكن إنتاج بديل سحري يعوِّض عن عدم قيام حركة مقاومة شعبية شاملة لعملية تدفيع أكثرية الناس فاتورة الانهيار الاقتصادي التي يتسبب به نموذج اقتصادي، ونموذج عن النظام المصرفي، ونموذج من الطبقة المسيطرة، ونموذج من وضع الدولة تحت وصاية ميليشيات، داخلها أو فوقها، وحركة تنادي بالعدالة للجميع، لبنانيين ومقيمين على أرض لبنان.
في غياب حركة شعبية كهذه، تدافع عن لقمة عيش العامل والمزارع والمدرس والموظف اللبناني، مثلما تدافع عن لقمة عيش وعن حق الفلسطيني في لبنان في العمل والحقوق المدنية، فإن البلد يتحول أكثر فأكثر إلى مخيم عين حلوة على مساحة أكثر من عشرة آلاف كيلومتر مربع، والمنافسة بين اللبناني والفلسطيني على الهجرة من هذه الحال باتت للاثنين معاً طوق النجاة – والوهم – الوحيد.
* كاتب وباحث لبناني