مقال جسور

لبنان واللاجئون الفلسطينيون: أزمات مضاعفة

لبنان واللاجئون الفلسطينيون: أزمات مضاعفة
* باحث لبناني ومستشار اقليمي سابق في الإسكوا
 
منذ انفجار الاحتجاج الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، ركز المحتجون اللبنانيون على مطالب اجتماعية وسياسية إصلاحية داخلية بحتة، وتجنّبوا تضمين تحركهم نقاطاً ومواقف تتصل باللاجئين السوريين أو الفلسطينيين، كما تجنّبوا أيضاً ادراج قضايا لبنانية ذات بعد إقليمي ضمن خطابهم. ولا يخلو الأمر من بعض المواقف المتفرقة ذات الطابع التضامني، أو التي تميز مجموعات بعينها، لكن التيار العام لخطاب “ثورة” 17 تشرين التزم التركيز على الأزمة المالية–الاقتصادية–الاجتماعية، وعلى الإصلاح السياسي والمؤسسي تحت عنوان بناء مؤسسات سلطة دستورية وملتزمة بالقانون بشكل فعلي. 
إستجاب مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بتمثيله السياسي (الفصائل) والمدني والشعبي للمسار الذي اختطه لنفسه الحراك اللبناني، فتجنّب التفاعل النشط معه. جاء ذلك أولاً من موقع الحياد وعدم التدخل في الشأن اللبناني الداخلي، وهو النهج الذي اختطه الفصائل الفلسطينية السياسية منذ سنوات؛ كما أن المجتمع المدني بتشكيلاته المنظمة أو بتجلّيه الشعبي المباشر، التزم التعاطف من دون مشاركة قوية وظاهرة في الحراك بشكل عام، حرصاً على احترام رغبة المحتجين وعدم إغراقهم في تناقضات لا تساعد قضيتهم. وقد حصل ذلك من دون تنسيق منظّم مسبق، بل هو التزام مشترك انطلاقاً من الحس السليم، ومن باب الحرص على النجاح بالدرجة الأولى، لا للأسباب الأخرى. 
نشير أولاً إلى أن الأزمة مركبة وذات مكوّنات ثلاثة: مالية، اقتصادية، واجتماعية. ولكل من هذه المكوّنات خصائصها والفاعلون فيها والمتأثرون بها على نحو لا يمكن اختزالها في واحدة دون الأخرى. 

1- الأزمة المالية

من تجلّياتها شحّ الدولار، وتراجع سعر صرف الليرة، وبروز ظاهرة السعرين”الرسمي” والفعلي، والقيود على السحب من المصارف والتحويلات الى الخارج، وأزمة الديون  والعجز المثلث في ميزان المدفوعات والميزان التجاري والموازنة… الخ. الفاعلون الأساسيون هنا هم السلطة اللبنانية، لا سيما وزارة المال، ومصرف لبنان وجمعية المصارف وأصحاب الأسهم والشركاء في المصارف وكبار المودعين، مع لحظ التداخل بين المالي والسياسي. أثّر ذلك على اللاجئين الفلسطينيين كما على اللبنانيين لجهة القيود المفروضة على حركة الأموال وإمكان السحب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا يتحمّلون أي مسؤولية عن هذه الأزمة التي تراكمت عناصرها على امتداد عقود، لا بل أن مساهمتهم هنا هي إيجابية بمعنى أن تحويلات أهالي اللاجئين الفلسطينيين العاملين في الخارج إلى أسرهم المقيمة في لبنان، والرواتب والتعويضات التي تمنحها المنظمات الفلسطينية إلى موظفيها ولأسر الشهداء والأسرى والمنح الاجتماعية، كل ذلك يشكل عملة صعبة صافية تدخل لبنان وتنفق فيه. وتشكل هذه الأموال مساهمة في تعويض بعض العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري اللبناني. علماً أن هذه الأموال تدخل فيها أيضاً نفقات “الاونروا” والمؤسسات الدولية، وما ترسله منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية الأخرى، وما تتلقاه مؤسسات المجتمع المدني، وما يصل إلى الأسر الفلسطينية من أبنائهم، وعليه فقد قدر أحد الباحثين المبلغ بحوالي مليار دولار سنوياً.

2-الأزمة الاقتصادية
التجلّي الأكثر أهمية لهذا الوجه من الأزمة هو الركود الاقتصادي العام (نسبة نمو تتراوح بين الصفر والواحد في المائة منذ 2013)، والأزمة الهيكلية التي تعاني منها القطاعات المنتجة (لاسيما الصناعة والزراعة– حصة الزراعة أقل من 5% من الناتج المحلي في العقد الأخير)، يضاف إليها تراجع كبير في السياحة بعد الأزمة السورية عام 2011، وأزمة القطاع العقاري… الخ. وقد تفاقمت هذه منذ عام 2015 مع تفاقم الأزمة المالية واللجوء إلى الهندسات المالية، وارتفاع الفوائد واستقطاب الودائع والموارد المالية في مصرف لبنان واستخدامها في تثبيت سعر صرف الليرة، الأمر الذي حرم القطاعات الاقتصادية– لا سيما المنتجة منها– من فرص التمويل والنمو. كما أن الأزمة المالية الراهنة أدت الى تعطيل التجارة أيضاً، بسبب صعوبة التحويلات مما يؤدي الى ركود معمّم وانكماش. لمواجهة هذه الأزمة جرت محاولات خلال عامي 2018 – 2019 تحت عنوان جذاب هو “الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج”. ولا يزال هذا الرأي مطروحاً بما هو أحد عناصر حل الأزمة الحالية.
 
وقد تأثر اللاجئون الفلسطينيون بالركود الاقتصادي والأزمة، شأنهم شأن اللبنانيين، لا سيما تزايد البطالة، وتراجع الأعمال بما في ذلك أصحاب الحرف والمحلات والاعمال الصغيرة والمتوسطة، والأكبر حجماً التي يمتلكها رجال الأعمال الفلسطينيون في لبنان، الذين يعانون مشاكل رجال الأعمال اللبنانيين نفسها.
 
الا أنّ ثمة وجهين متمايزين لبعض جوانب الأزمة على اللاجئين ذات صلة بعلاقتهم بسوق العمل بشكل خاص. 
 
الأول يتعلق بالحق في العمل نفسه، وقد أشبعت نقاشاً في المرحلة السابقة، لا سيما في إطار لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني. خلاصة هذا الجانب أنه من الناحية الاقتصادية والواقعية، القوى الفلسطينية العاملة هي مكوّن عضوي لسوق العمل اللبنانية لا ينفصل عنها. ويبلغ إجمالي حجم القوى الفلسطينية العاملة (حسب تعداد السكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان، 2017 الذي نفذّته إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تحت المظلة الإدارية والإشرافية للجنة الحوار اللبناني الفلسطيني) حوالي 52 ألف شخص (بمن فيهم العاطلون عن العمل)، في حين بيّن المسح الأخير الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي أن إجمالي عدد القوى العاملة في لبنان (عام 2018) هو 1.8 مليون شخص، أي أنّ إجمالي الفلسطينيين العاملين في لبنان يمثل أقل من 3% من اجمالي القوى العاملة. وكانت الحوارات السابقة قد توصلت الى توصيات تنص على ضرورة تيسير انضمام الفلسطينيين إلى سوق العمل بشكل منظم وعلني، وعلى الإلغاء المتسق لمبدأ المعاملة بالمثل، وعلى شمولهم بالضمان الاجتماعي. وكل ذلك قابل للتحقيق في حال الالتزام بالقانونين 128 و129، من دون الحاجة إلى إصدار أي قانون جديد.
 
أما الوجه الثاني فيتعلق بالإصلاحات والسياسات الموعودة للانتقال من الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد المنتج، وتحفيز النمو الإقتصادي. وهذا يعني ضرورة توسيع النشاط الإقتصادي وزيادة معدلات النمو، مع ما يقتضيه ذلك من زيادة عدد قوة العمل مترافقة مع توسع الإنتاج والنمو، حيث أنّ معدل النشاط الاقتصادي في لبنان متدن (38% من اجمالي السكان، 49% من اجمالي السكان في سن العمل). بهذا المعنى، فإن الاصلاح الاقتصادي المطلوب والمتوقع خلال السنوات القادمة، عليه أن يولّد فرص عمل كثيرة من أجل تحقيق أهدافه لا سيما في المجالات المنتجة. وفي هذا الصدد، ثمة حاجة أكيدة إلى الادماج الذكي للقوى العاملة الفلسطينية في سوق العمل اللبنانية بشروط نظامية ولائقة، باعتبار ذلك أحد متطلبات النهوض الاقتصادي لا سيما في قطاعي الزراعة والصناعة والأنشطة الحرفية والبناء والبنى التحتية… الخ، وفي ذلك مصلحة لبنانية في حال كان هناك جدية في الإصلاح الاقتصادي الموعود.
 
3-الأزمة الإجتماعية
 
تجلياتها كثيرة في مختلف مجالات المعيشة، سواء من حيث انخفاض الدخل، وتدهور القيمة الشرائية، وشروط حياة السكان المتردية، وعدم توفر الخدمات، وتوقع قصور إضافي في خدمات “الأونروا” إرتباطاً بصفقة العصر وما يعنيه ذلك من تدهور خدمات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، الأمر الذي يجعل نمط العلاقة الحالية بين لبنان و”الأونروا”، والتوزيع الحالي للمسؤوليات غير ملائم ويتطلب البحث والتعديل لمواكبة التحديات الجديدة. وهذا أمر يحتاج إلى معالجة مستقلة لاحقة.