مقال جسور
لديّ كلتا العينين

* صحافية فلسطينية لبنانية
تولد بعض القطط بخلل جيني ينتج عنه عدم تطابق لون العينين، ولكن هذا الخلل لا يؤثر على حاسة النظر، بل يعد نوعا من أنواع الجمال والتميز.
يبدو أني ولدت بهذا الخلل، ورثته وأورثته، وبما أن الموضوع هنا بعيون فلسطينية، وأخرى لبنانية، فلدي كلتا العينان، وهما على الرغم من صعوبة جمعهما في الواقع، إلا أنهما غاليتان على قلبي، وهما في جوهري.
ولدت فلسطينية لاجئة في لبنان، ورثت اللجوء في الجيل الثالث ما بعد النكبة، ولكن ليس لجوء “بيور” أي عرق صاف. اخترقت جدتي من جهة الأم الجيل الأول، فهي كانت لبنانية جنوبية.
هنا، بداية القصة، لم أرث ذكريات الحرب الأهلية، ولم تكن رواسبها في ذاكرتنا، لم يكن سوى الحب، وقصة الحب العاصف والعيون الملونة في وجه جدتي.
غير أن الاختراق الفلسطيني جاءني في اللهجة والهوية الزرقاء، اللتين لم تكونا مشكلة، فالأولى دليل أصالة، والثانية هوية وتمسك بحق العودة.
بقي الوضع هكذا إلى أن دخلت الجامعة حيث تجتمع العوالم المختلفة ويبدأ الفرز الأفقي والعامودي، تارة بسبب الهوية، وطوراً بسبب الطائفة، وأخيراً بسبب الوضع الاقتصادي. بدأت عيناي تتلونان حزناً بسبب التنمر على لهجتي أولاً، ثم هويتي التي رأى فيها البعض أنها سبب لحرب أهلية أنا والآخر لم نعشها.
مرت سنوات الجامعة على مضض، يقترب منا الآخر اللبناني حين تقصف إسرائيل غزة، يتضامن، يحزن، ويشاركنا في المسيرات. لكن عندما يبدأ الحديث عن الوضع الإنساني للفلسطيني داخل المخيمات تستحضر الحرب الأهلية، ونصبح أعداء، وننعت بالإرهابيين، وتنعت المخيمات بالجزر الأمنية.
هي ازدواجية لم أفهمها، كيف يمكن أن يحب الإنسان قضية، وفي الوقت نفسه يكره أصحاب القضية.
للأسف أصيب الفلسطيني بـ”تروما” الصمت وأغلق على نفسه داخل المخيمات، وبات الآخر مجرد جلاّد يتحاشى النظر الى عينيه، وما أدراكم ما يعني عُزلة وعَزل، يعني بيئة حاضنة ومشرعة على كل السناريوهات والاحتمالات.
ولكن عيني الملونة أبت الاستسلام والعزل، فعيني اللبنانية هي خارج المخيم وتعشق بيروت، لذا دخلت غمار العمل. وأيضاً اللهجة والهوية، كانتا سببا لأن أعمل في السخرة، ساعات عمل طويلة، عطلة بالتقطير، راتب لا يكفي مواصلات، عقود عمل فقط في الأحلام، وفق هذا كله تسمع جملة “منيح إنك ملاقية شغل وانت فلسطينية”.
وأخيراً، قادتني تلك العين إلى ابن بيروت، أحببته، وتزوجنا. لن أخدع نفسي. لم يكن سهلاً أني أُخضِعت للتحقيق لمجرد أني أردت الزواج من لبناني. ولم يكن سهلاً خضوعي مرة أخرى للتحقيق بعد أن أنجبت طفلتين لأني طالبت بالجنسية، ولم يكن سهلاً عندما استلمت إخراج القيد مكتوباً عليه “انتقلت من دائرة الأجانب”، وليست لبنانية.
ولكن عيني اللبنانية تطلعني على طفلتي: سيلا وميلا. فما أروع أن أكون فلسطينية وأحمل في رحمي لبنانيتين.
إلى الآن لم أر ألوان عيني ابنتي، ولكن أتمنى أن تكونا ملونتين لتريا أجمل ما في الفلسطيني وأجمل ما في اللبناني.