مقال جسور

لماذا لا تكون إدارة نهر البارد نموذجاً للمخيمات؟

لماذا لا تكون إدارة نهر البارد نموذجاً للمخيمات؟

زهير هواري *

البداية تعود إلى التسعينيات. للمرة الأولى أتوجه إلى فيها مخيم نهر البارد. ما تزال صورة المشهد في رأسي لا تبارح. أتجول في الأحياء وألتقط التفاصيل وأسجلها على أوراقي في اطار تحقيق مطول نُشر على حلقات في جريدة “السفير” شمل ما تبقى من مخيمات لجوء في بلادنا عنوانه العام:” المخيمات الفلسطينية من وقود الثورة إلى رماد السلام”. على مقربة من حي ملاصق للبحر أرى ما لم أره قبلاً ولا بعداً، خلال عملية تشييع لأحد أبناء المخيم. الغرابة ليست في حدث الموت، فالناس يموتون يومياً ودوماً. بل لأن الميِّت نفسه كان محمولاً على كرسي ووراءه حشد من الناس الذين يسيرون خلفه مواربة ومتلاصقين. شابان يرفعان الكرسي وثالث يمسك برأس الميت بكفنه الأبيض كي لا يسقط أرضاً. يخبرني الأهالي أنهم حاولوا إدخال النعش ولم يفلحوا بالنظر إلى ضيق الأزقة، وعليهم أن يحملوا المتوفي إلى مثواه الأخير، فوجدوا هذه الطريقة الغرائبية.

الآن المخيم تغيَّر كلياً عما كان عليه قبل جريمة العام 2007 التي أنهكته وأنهكت الجيش اللبناني معاً. لا يعني أن المشهد بات مثالياً. فما زال المخيم بحاجة إلى الكثير من أجل ضمان بقائه معافى، بما يخرجه من دائرة الاستعمال صندوق بريد متفجر، وهو الوحيد الذي أعيد إعماره من المخيمات التي أصابتها جائحة الحروب في لبنان. هنا ندخل في صميم وضعه وأوضاع المخيمات التي تحتاج إلى الكثير من الخدمات والمبادرات، كي لا تبقى شؤونها البلدية الخدماتية مشتتة بين الإدارات والمؤسسات الرسمية اللبنانية والأونروا واللجان المحلية. لا بد من الإشارة إلى أن الحكومة اللبنانية بعد توقف القتال وعدت بإعادة إعماره، وسعت مع الأونروا إلى حشد الدعم الدولي لهذه المهمة. وعلى هذا الأساس عقد مؤتمر فيينا- النمسا في العام 2008 الذي تعهّد تمويل العملية. وهذا ما حدث وإن ببطء لا يتلاءم مع إلحاح الأهالي المتلهفين والعائدين إليه بعد تهجيرهم لسنوات. لكن المؤتمر لم يقتصر على الجانب المالي إذ أصدر وثيقة مرجعية، ركزت على ضرورة تأسيس إدارة شفَّافة للمخيم بما يشمل تحقيق الأمن وسلطة القانون من خلال شرطة مجتمعية ذات ثقافة وقدرة تواصلية واطلاع على التاريخ السياسي للاجئين الفلسطينيين كي يتعرفوا على خصوصيات المجتمع الذي يعملون فيه، مع ما يتطلبه ذلك من التدريب على حل النزاعات مع تأمين المساعدة التقنية لقوى الأمن. ورأت أن ذلك يحقق إزالة الحساسيات ويشجع على المشاركة ويشجع الأهالي على التبليغ والمؤازرة للقوى الأمنية. تقترح الوثيقة مشاركة ضباط الشرطة المجتمعية في أنشطة وبرامج شبابية لتمتين العلاقة مع أهالي المخيم ما يجعله مكاناً أكثر أماناً. وأخيراً تقترح تعميم هذا النموذج الناجح للأمن على المخيمات الفلسطينية الأخرى.

إذن، صدرت التوصية الأولى قبل 13 عاماً بالتمام والكمال، وكانت لجنة الحوار منذ العام 2007 قد حصلت على تكليف من رئاسة مجلس الوزراء التي تتبعها لوضع تصوُّر لإدارة مخيّم نهر البارد على أن يكون نموذجاً في سيادة الدولة والقانون والأمان الإنساني، بالتعاون مع مؤسّسات الدولة الرسمية المدنية والعسكرية والبلدية المحيطة بالمخيّم. وبالطبع بالتنسيق مع وكالة الأونروا، واللجنة الشعبية في المخيم. تلا  ذلك ما توصلت إليه  “مجموعة العمل اللبنانية حول قضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” المُشكّلة من الأحزاب السبعة الأساسية في البلاد عندما أصدرت في العام 2017 وثيقة “الرؤية اللبنانية الموحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” بعد عامين من الاجتماعات المتلاحقة، وما تضمنته بشأن إدارة مخيم نهر البارد وسواه من المخيمات.  تحدثت الرؤيا عن الوضع غير المنظم في المخيمات، وعرضت ما تتيحه تجربة نهر البارد مع توفر مناخ إيجابي صحي مناسب من كل الأطراف المعنية، وتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية إعادة الإعمار وفق خطة ممنهجة وبمشاركة أهالي المخيم، وفق ما جاء في الموقف اللبناني إلى مؤتمر فيينا، ثم توصلت الوثيقة إلى ما يلي حول إدارة المخيمات :” ترى مجموعة العمل أن دور الدولة في إدارة المخيمات يجب ألا يقتصر على البُعد الأمني كما هو سائد حالياً، بل يجب أن يتعداه إلى التعامل السياسي والخدماتي والحقوقي، وبالتالي رعاية كل من يقيم فوق أراضيها والمقيمين عليها… إن وجود لجان ذات طابع تمثيلي في المخيمات، من شأنه أن يساعد على تحسين إدارة المخيم في شؤونه المعيشيه، وأن يسهل التعامل بين اللاجئين ومختلف الإدارات الحكومية الخدماتية والبلديات المحيطة. إن تولي الدولة إدارة المخيمات يجب أن يتم بالتفاعل والتعاون مع وكالة الاونروا باعتبارها مسؤولة عن تقديم الخدمات، ومع اللجان التمثيلية لأهالي المخيم وفعالياته. إن تقييم تجربة إدارة المخيمات راهناً وعمل اللجان الشعبية مع مختلف الإدارات الرسمية والمؤسسات الخدماتية والبلديات، يُظهر ضرورة العمل بهذا الإتجاه، المقترن في الوقت نفسه بخطوات تحدد السلبيات الناجمة عن تأثير تعدد المرجعيات وقنوات التواصل وتوحيد المرجعيتين الإدارية اللبنانية، والفلسطينية وتنظيم العلاقة في ما بينهما على أسس سليمة” .

والواقع أنه في شهر شباط  من العام 2019، وبناءً لطلب لجنة الحوار وبموافقة الحكومة تشكّل فريق عمل مكوّن من معظم الإدارات اللبنانية المعنية بهذا الموضوع، فكان هناك ممثلون عن وزارات الداخلية والعدل والدفاع والأشغال ومديرية الأمن العام ومعظم مؤسسات الدولة. درس الفريق الصيغ الملائمة لمسودة مشروع قانون لمدة خمسة أشهر إلى أن أنجزه. وعليه، يمكن القول إن المقترح الذي حمله مشروع القانون لإدارة المخيم هو ثمرة عمل هذا الفريق.

والمشروع المذكور يتألف من 10 مواد تنطلق من إلحاح إدارة شؤون اللاجئين الفلسطينيين مع الحفاظ على هويتهم الوطنية وسيادة الدولة، كما على دور الاونروا. ويُعرّف المشروع اللاجيء الفلسطيني انطلاقاً مما ذهبت إليه وثيقة الرؤية، ويحدد دور الإدارة برعاية وتنظيم المسائل الانسانية والمعيشية من إقامة وصحة وتعليم وعمل وسواها، من دون إغفال مسؤولية الاونروا. وتنيط الإدارة في المخيم بهيئة وطنية تعمل على تحديد النطاق االجغرافي وإدارة الخدمات العامة من ماء وكهرباء وصحة وصرف صحي وبُنى تحتية ومسك السجلات الإحصائية بالتنسيق مع مديرية الشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية والحفاظ على الأمن الداخلي، وبالتعاون مع كل من الاونروا والسلطات الفلسطينية الرسمية . باقي المواد تتعلق بتشكيل الهيئة والمراسيم التي تتطلبها عملية قيامها ومدد التوظيف والفئات وغيرها، على أن تكون موازنتها في باب الموازنة العامة العائد لرئاسة مجلس الوزراء.

المقصود من استعادة هذه الوقائع القول إن لبنان الرسمي ينطلق من خلال ما تقدم من الاعتراف بضرورة تحسين أوضاع الفلسطينيين ومخيماتهم ومن مسؤوليته عنهم خلاف ما هو سائد من ترك المهمة على عاتق الأونروا واللجان المحلية. خصوصاً وأن خدمات المخيمات جزء من شبكات الخدمات العامة في البلاد. وهذا المشروع وإن كان يحقق للدولة سيادتها فهو في الوقت نفسه يحفظ للفلسطينيين كرامتهم وأمنهم ويشركهم في المسؤولية من خلال مساهمتهم في صيانته، بديلاً عما هي عليه المخيمات من اضطراب وبؤر أمنية يقصدها المهربون وأصحاب السوابق والمتهمون. ويبقى السؤال: متى تكون إدارة لمخيم نهر البارد وتكون نموذجاً لباقي المخيمات؟

 *باحث وصحافي لبناني