مقال جسور

لن أبيع أبداً دكّان أبي

لن أبيع أبداً دكّان أبي
* صحافية فلسطينية 

أنهى والدي مسيرة طويلة في التعليم دامت أكثر من أربعين سنة، ولم يُرِد أن يجالس شاشة التلفزيون في المنزل، و لا أن يمضي نهاره في حفظ وجوه مقدّمي نشرات الأخبار وتتبّع أحوال الطقس، فقرّر أن يفتتح دكاناً صغيراً للألعاب والأدوات المنزلية قرب مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية. 

 
كان المحل على ناصية شارع البرج الفاصل (أو الواصل) بين مخيم اللاجئين الفلسطينيين ومنطقة البرج اللبنانية، فكنّا أنا وأخي نسمع طوال اليوم انتقالاً دائماً بين اللكنات، ونحاول كأطفال التماشي معها عندما يأتينا الزبائن. لكننا كنّا نضيع غالباً ولا نفرّق بين التعابير اللبنانية والفلسطينية، فكم من مرّة استخدمت “تقبرني” و”الله يسعدك” في سياقات معاكسة، وكم من صبّيٍ لبنانيٍّ وسيم قلت له “عما ما أحلاك” وكم من فلسطينيٍّ قلت له “يا دلِّي عليك” في محاولاتي لتدليل الشبان الصغار. 
 
كان دكّان والدي الأوّل من نوعه في المنطقة، وكان مزار جميع نساء البرج والمخيم. أسماه والدي محل الـ one dollar تماشياً مع موضة السوق الجديدة وقتها. فكان والدي يأتي بالبضاعة من منطقة البسطة التحتا في بيروت، ويقصده أصحاب دكاكين مخيم برج البراجنة لشراء بضاعتهم منه بالجملة، فترى الدكّان الصغير يعجّ بالتجّار والنساء والأطفال، وبنا. 
 
رغم محاولتي أنا وإخوتي المساعدة، كنا “بدل ما نكحّلها نعميها” على قولة والدي. أمّا والدتي فكانت قرويّة فلسطينيّة متعصّبة. فكلماتها كانت دائماً أقوى وقعاً، فتقول لنا أمثلة فلسطينيّة قرويّة مثل “في اللي بعمّر قصور وفي اللي بيبحّش قبور”. لم أفهم يوماً كلمات والدتي، كنّا مجرّد أطفال، نجرّب الألعاب الجديدة في الدكّان ونستمتع بها قبل أن يشتريها أحد، ونحاول إنفاق “جارور الغلّة” على البوظة والسكاكر من الدكّان المقابل. لكنَّ أجمل أوقاتنا في دكّان والدي، كانت عندما يأتي أطفالٌ من عمرنا لشراء الألعاب وليشاركونا  الأغاني أو حركات اللعب الجديدة، فريم هي التي علّمتني “فتّحي يا وردة، ضمّي يا وردة…”.أذكر ريم جيداً، فقد كان يأتي بها والدها عند صدور نتائج كل شهادة ليكافئها بهدية تختارها. كنت أحسدها لأنّ والدها يشتري لها الألعاب التي تحب، وكانت تحسدني لأنّ والدي يمتلك دكان ألعاب… كانت ريم تجلس قربي على السلالم أمام الدكّان لنجرّب لعبتها الجديدة بينما والدانا يتسامران، وكانت تغنّي لي من أغاني ألعاب مدرستها. مرّة، طلبت أن أصفق يدي بيديها وهي تغنّي: “أنا السندباد، أصلي من بغداد، عمّي علاء الدين، جابلي كتاب الدين، من فلسطين، وفلسطين بلادنا واليهود كلابنا، دقّوا على بلادنا متل الشحاتين… تين تين تين…”.
 
تسمَّرت أمامها وهيّ تغنّي بحيوية مطلقة. لا أعرف لماذا فاجأني غناؤها يومها. كنت أسمع لأوّل مرّة تصريح حبٍّ صادقٍ لفلسطين من فتاةٍ تقول “تقبريني” وليس “الله يسعدِك”، هل يعقل أن اللكنات اختلطت في دماغي مجدداً؟. هرعت ساعتها إلى والدي لكي أُسمعه أغنية ريم، فابتسم وقال: “شو كنتي مفكرة؟ البشر كلهم بيخلقو عالحب”.
 
والدي يومها كان أوّل من يعرّف لي الحب.
 
والدي الغامض الذي لم أعرف عنه يوماً سوى ما سمعته من رفاق الجبهة الشعبية عن بطولاته، وتدريباته في معسكرات جمال عبد الناصر في مصر عندما عثرت على جواز سفره القديم المليء بأختام الجمهورية العربية المتحدة. والدي كان قليل الكلام. في صباح يومٍ كانوني شاهدته ينزع لافتة الدكّان التي كتب عليها  one dollar ويعلّق مكانها لافتة “كل شيء بالليرة”. لم يقل لي لماذا غيّر فجأةً الاسم، تماماً كما لم يحكِ لي يوماً عن أسباب عدم تلبيته يوماً دعوات الأحزاب و حفلات التكريم… 
 
مرّت ٢٠ سنة وتغيّرت السّوق. بدأتَ ترى “بكِّين” في كل أسواق البرج، ولم تعد ترى زبوناً واحداً في دكّان أبي. 
 
تغّيرت أنماط الإستهلاك وتغيّر لون شعر أبي، لكن اسم الدكّان لم يتغيّر.
 
في اللحظة التي قال فيها أبي “سوف نبيع الدكّان”،  أدركت أن الأمر بات حقيقياً، ولا مفرَّ منه. عرفت ساعتها أن سرَّنا المؤجّل لم يعد يحتمل التأجيل.
 
أنا أعلم… أعلم يا أبي أن الدكان لم يعد يدر المال منذ  مدة طويلة، وأنّك تخبىء كل يومٍ مع كيس الفاكهة كتاباً غليظاً لا تحتاج إلى قراءته أكثر من يومين، وأنَّ الدكان لم يعد يدخله زبائن، وأنه مُهرِّبُك من الدنيا إلى خيال الروايات، ومن جلسات العجائز وزيارات الأطباء. أعلم أنك تجلس فيه طوال اليوم تفادياً لأن يسألك أحدهم عن سبب هزائمنا في الحرب، وعن مصير المفقودين الذين قاتلوا إلى جانبك، وكي لا يسألك أحفادك عن معنى العدل أو الوطن.
 
أين ستعيش خيالك الآن؟ هل تخليّت عنه با أبي؟ أين ستختبىء من علب الأدوية الآن؟ وأين ستختبىء من أمل ابنتك بالحب؟  
ملاحظة صغيرة: والدي لن يقرأ هذا المقال، وأنا لن أبيع الدكّان، إذاً فالحياة بكامل عدالتها.