مقال جسور
لِوَعي فلسطيني – لبناني مشترك لدقة المرحلة .. متى يوضع السلاح على طاولة النقاش؟

عمار نعمة
صحافي وكاتب لبناني
يمرُّ اللاجئون الفلسطينيون في لبنان في مرحلة هي الأصعب لهم طوال تاريخهم في هذا البلد الذي يعاني بدوره اليوم من أكبر أزمة إقتصادية منذ إنشائه قبل نيف وقرن. ذلك أن الواقع المزري المزمن للشتات الفلسطيني يزداد مأساوية نتيجة الكارثة الإنسانية التي يعانيها اللبنانيون التي بات معها مطلب الفلسطينيين بحياة كريمة، أكثر صعوبة، فلبنان بات أعجز عن المساعدة، هذا في حال توفرت النية الصادقة لدى المسؤولين لتقديم يد العون، ففاقد الشيء لا يعطيه.
من هنا تقف قضية اللاجئين في لبنان، وهي روح القضية الفلسطينية، أمام تحدي مواجهة الظروف المحلية المأساوية في موازاة ما يحاك لها في الخارج لتصفيتها.
إستقرار أمني
لكن الضوء الإيجابي الذي يخرق عتمة قضية اللاجئين وعلاقتهم المربكة بلبنان عبر التاريخ، يتمثل في الاستقرار الأمني في المخيمات. فالمخيمات التي شكلت عنصر قلق على الدوام بالنسبة إلى الداخل اللبناني، تعيش مرحلة من الاستقرار الأمني بعد جهد فلسطيني كبير داخلها من قبل الفصائل، بتنسيق كامل، أمني ولكن أيضاً سياسي، مع لبنان الرسمي.
والحال أن الفلسطينيين أجروا مراجعة شاملة للماضي الذي لم يكونوا الوحيدين المسؤولين عنه، وهم خرجوا من تورطهم في الحرب الأهلية بقرار لا رجعة عنه بعدم التورط بأي نزاع داخلي يُضرّ بقضيتهم الأساس: العودة إلى فلسطين. وانطلاقاً من احترامهم لسيادة لبنان على كامل أراضيه بما فيها المخيمات الفلسطينية واحترام الدستور والقوانين اللبنانية، وانحيازهم إلى السلم الأهلي ودعم اتفاق الطائف، يستند هؤلاء إلى “معادلة ثلاثية” قوامها: أولاً، مجابهة أي صراع فلسطيني فلسطيني. ثانياً، مواجهة أي صراع فلسطيني لبناني. ثالثاً، الوقوف في وجه أي فتنة سنية شيعية في لبنان.
أدت تلك المحرمات إلى تحييد الفلسطينيين على قاعدة رفض العبث بأمن المخيمات ولبنان، ومنع استجلاب التوترات الإقليمية وعدم التحول إلى أداة شحن مذهبي.
إلا أن الأهم هنا هي المعادلة التي تقول إنه إذا وُجد الاستقرار المعيشي والاجتماعي وُجد الاستقرار الأمني على مجمل الساحة الفلسطينية في لبنان التي يتوزع عليها 12 مخيماً و156 تجمعاً.
مصلحة مشتركة
لكن ذلك لا يمنع من واقعية فلسطينية مدركة تماماً للوضع اللبناني الحالي الصعب، مع توجيه خطاب صلب لكن غير مُلحٍ اليوم بالحقوق، في ظل معاناة اللاجئين من تراجع أداء “الأونروا” وتقديماتها في المخيمات التي كانت تعيش معاناةً في الأصل.
هنا ثمة مطالب كثيرة للفلسطينيين وجهوها دوماً، وخاصة بعد البادرة اللبنانية قبل سنوات بإعادة فتح السفارة الفلسطينية وتشكيل لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني ثم إعادة إعمار مخيم نهر البارد ما تلاه تعاون بين لبنان والفصائل ضد الخلايا التكفيرية في المخيمات.
يقدم الفلسطينيون مطالبهم انطلاقاً من مسلمات دعم وحدة لبنان وأمنه واستقراره وتعزيز العلاقات الأخوية اللبنانية الفلسطينية ونزع أية ذرائع أو أسباب تؤثر عليها. والرغبة الثابتة في الحيلولة دون أن تكون المخيمات الفلسطينية منطلقاً لأية أعمال من شأنها المساس بالأمن في لبنان مع التأكيد على سياسة عدم التدخل في الشأن الداخلي اللبناني. باختصار إنه التأكيد على دعم الفلسطينيين وانحيازهم للأمن والسلم والاستقرار في لبنان.
تجدر الإشارة هنا إلى أن من مصلحة لبنان والفلسطينيين على حد سواء مراعاة خصوصية اللاجئين وتوفير حقوقهم الإنسانية والاجتماعية بإستثناء الجنسية والوظائف العامة. وذلك انطلاقاً من رفض لبنان للتوطين ومن التزاماته الدولية لاسيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، واتفاقية مناهضة التمييز العنصري لعام 1965، وغيرها من الإتفاقيات والقرارات لا سيما القرار 194 لجهة حق العودة الذي يتمسك به الفلسطينيون. ومن مصلحة لبنان معاملة اللاجئين في جميع ما نصّت عليه القوانين والأنظمة النافذة المتعلقة بحقوق العمل والضمان الاجتماعي والتجارة والملكية العقارية والتعليم والصحة وغيرها من الحقوق الانسانية مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية حفظاً لحقهم في العودة ورفضاً للتوطين.
واقعية في المطالب
بات على الفلسطينيين أيضاً إدراك أن واقع لبنان في خضم الأزمة الاقتصادية هو غير ما قبله كل السنوات التي مضت. ثم أن من الصعب على لبنان مقاربة المطالب الفلسطينية وسط أزمة سياسية وانقسام طائفي هو المسبب الأول للانهيار الاقتصادي والمعيشي، وهي أزمة مرشحة للاستمرار طويلاً نظراً للظروف الداخلية خاصةً الطارئة بعد الانتخابات النيابية، ثم، وهذا الأهم، عدم نضج التسوية الخارجية على لبنان الذي لم يعرف استقرارا طويلاً من دونها.
لذا فالمطالب المحقة للفلسطينيين سيكون عليها الإنتظار طويلاً على ما يبدو نظراً لظروف لبنان. ومنها حق العمل من دون إجازة، والتملك ضمن قوانين معيّنة، وتعديل قانون الإيجارات لتحقيق المساواة بين المستأجر اللبناني والفلسطيني، والحقوق المدنية عبر رفع الإجراءات والقيود عن الدخول والخروج من وإلى المخيمات، ومساواة الفلسطيني أمام القانون والقضاء، كذلك التمتع بالدعم القانوني مثل اللبناني، وعدم اعتقال أو إيقاف الفلسطيني “تعسفاً” على حد قول البعض ومعاملة المسجونين منهم معاملة انسانية. إضافة إلى الحقوق الجماعية مثل الجمعيات والروابط والاعتراف القانوني بالاتحادات والنقابات الفلسطينية والاعتراف القانوني باللجان الشعبية في المخيمات.
أيضاً الحق في الإعلام والتعبير والإنتساب إلى النقابات الصحافية والإعلامية وتعديل حق تنظيم التظاهر.. وأيضاً الحق في التعليم في المدارس الحكومية وخاصة السماح للطلبة الفلسطينيين بدخول جميع كليات الجامعة اللبنانية، الأدبية والعلمية كالطب والهندسة وغيرها. ناهيك عن مطالبات بحقوق في الصحة والتربية إضافةً إلى معالجة الاكتظاظ الفلسطيني وتنظيم المخيمات جغرافياً.. وطبعا يحضر موضوع البطاقة الممغنطة للفلسطينيين وهي جاهزة ومن شأنها ضبط التزوير والإفادة في موضوع الإحصاء الدقيق للاجئين إضافة إلى فوائد أخرى..
لكن في المقابل، تجدر الإشارة هنا إلى أن ممارسة المهن الحرة مثل الطبابة والصيدلة والهندسة غير ممنوعة على اللاجئين وهي تعود إلى قرار النقابات نفسها التي تمنع انتساب الأجانب وليس الفلسطينيين فقط والأمر يُسقط نفسه على التعليم في المدارس الخاصة.. ما يعني أن المسألة ليست منوطة بلبنان الرسمي.
مقاربة لا يختصرها الأمن
والواقع أنه منذ تشكيل لجنة الحوار في العام 2005، حدثت عوائق فلسطينية ولبنانية داخلية لم تدعم هذا الحوار لا سيما وسط الأحداث الاقليمية المشتعلة. وبينما تأخر الفلسطينيون في حلّ خلافاتهم حول تشكيلة الوفد المفاوض، فإن المشاكل اللبنانية وأزماته المتلاحقة المرتبطة بالخارج كانت كافية لتجميد أي نتيجة لهذا الحوار الذي يعتبر حاجة لبنانية كما هي فلسطينية.
وكان مفيداً أن وحّد الفلسطينيون رؤيتهم عبر “هيئة العمل الفلسطيني المشترك” التي تعبر عن مواقف الفصائل، في الوقت الذي يتابع فيه لبنان الرسمي التنسيق مع السفارة الفلسطينية.
وكان مطلب الفلسطينيين دوماً النظر إليهم بعدالة ومُقاربة قضاياهم المعيشية والحياتية كون ذلك من شأنه تعزيز ذلك الجانب الأمني نفسه الذي سيكون قاصراً عن مُقاربة قضية اللاجئين من دون عدالة اجتماعية تقي لبنان شرّ أي هزّة في المخيمات تضرّ بالحصانة الفلسطينية في وجه التوطين والتهجير والوطن البديل.
خشية من توقف “الأونروا”
وهنا يحضر موضوع “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” أي “الأونروا”، التي خفّضت تقديماتها كثيراً، واليوم وضعت عليها الإدارة الأميركية، المموّل الأكبر، بعد عودتها الى التمويل الكامل وتقديم 150 مليون دولار كانت الادارة السابقة قد حجبتها، شرطاً أن لا تذهب المساعدات “في شكلٍ مباشر أو غير مباشر، لتقديم الدعم للأفراد أو الكيانات المرتبطة بالإرهاب”، حسب إتفاقية الإطار للتعاون بين الطرفين، وهو ما يثير مخاوف الفلسطينيين بأن يتم شمل عائلات من تربطهم واشنطن بالإرهاب.
من هنا ثمة خشية فلسطينية من تدرج مقصود في تخفيضات تلك المؤسسة على طريق تخفيض أهميتها قبل إغلاقها، علماً أن اللاجئين أنفسهم لن يقاتلوا لأجل بقاءها بعد ما عانوه منها ولكنها تشكل اليوم الرئة التي يتنفسون منها.
في كل الأحوال، سيكون من شأن ذلك إلقاء الأحمال الإضافية على كاهل لبنان ما يعني أنه لن يكون قادراً على تقديم يد العون للاجئين وهو ما يجب أن يعيه هؤلاء.
على أن المؤكد اليوم أن لا مصلحة للفلسطينيين بالتوطين في بلدٍ بائس تدنّت فيه الرواتب في شكل دراماتيكي للبنانيين قبل غيرهم أو بات الكثير منهم بلا عمل أصلاً. لذا بات رفع السقف المطلبي الفلسطيني بلا معنى خاصة بعد ما حدث من ارتفاع جنوني في سعر الدولار وتضخم متفلت من أية رقابة، وسط فراغ حكومي ومن بعده رئاسي وشلل مؤسساتي في لبنان يجب أن يدفع الفلسطينيين إلى الواقعية القصوى في مقاربة موضوع الحقوق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من الاختصاصات التي يطالب بها الفلسطينيون بات خارج الإطار الرسمي اللبناني ويتعلق اكثر بالمبادرة الفردية والقطاع الخاص في ظل ثورة الإعلام ووسائل الإتصالات والتواصل الإجتماعي ما يفترض العمل خارج الإطار التقليدي ويقع على عاتق الفرد الفلسطيني.
ماذا عن السلاح الفلسطيني؟
كل هذا يعني أن تفهُّم الوضع اللبناني سيُعزّز من القضية الفلسطينية اللبنانية المشتركة ويحمي مطلب حق العودة الذي يتمسك به الفلسطينيون ويعي أهميته اللبنانيون على بلدهم.
وتفهُّم الوضع اللبناني يقود بدوره إلى مقاربة موضوع السلاح الفلسطيني وخاصة ذلك المتواجد خارج المخيمات. ومن شأن التوصل إلى حل له في إطار الرعاية اللبنانية والضمانات الرسمية أن يوفر الحماية اللازمة للاجئين الذين لا يحتاجون إلى هذا السلاح في معركة كبرى في سبيل عودتهم.
هذا يتطلب حواراً صريحاً مع لبنان، ويمكن ان يتم مع القوى المعنية فيه أيضاً التي يحتفظ الفلسطينيون بعلاقة وثيقة معها، لتوفير مثل تلك الضمانات ويمكن للأمر أن يتم في إطار استراتيجية موحدة لبنانية – فلسطينية تكون أولويتها حماية الفلسطينيين خارج وداخل المخيمات من الاختراق الخارجي للعبث بالأمن الفلسطيني قبل اللبناني.
ولذلك فإن تعزيز الثقة بين الجانبين مطلوب ومُلح في ظل ما يمكن أن يحاك للقضية المشتركة المتمثلة بحماية اللاجئين وسيشكل اللّبنة الأولى على طريق مقاربة هذه القضية التي طالت.
الجانبان مطالبان بالمزيد من الوعي والتنسيق متعدد الأوجه، لا سيما الأمني منها، وسط أسئلة من نوع: ما هي طبيعة المرحلة المقبلة على المنطقة ولبنان ضمنها؟ هل ستكون مرحلةً خطيرة على مصير قضية اللاجئين داخل فلسطين وخارجها؟ وهل سيتمكن لبنان والفلسطينيون من مواجهة تحدياتٍ عميقة مثل تسلل بعض من يريد العبث بالأمن اللبناني الفلسطيني المشترك كما حدث في الماضي؟ وقبل ذلك كلّه، كيف سيكون وضع لبنان سياسياً وهل ستطول مرحلة الفراغ وما أثر ذلك على قضية اللاجئين؟