مقال جسور

متى يغادر اللبناني والفلسطيني مرآة ذاكرتهما المعطوبة؟

متى يغادر اللبناني والفلسطيني مرآة ذاكرتهما المعطوبة؟
*كاتب وصحافي لبناني

كان لا بد أن يحدث ما يلي.. لكنه لم يحدث. لم يعترف أحد بعد بالإرتكابات وحكايات الدم والضحايا. بين اللبنانيين والفلسطينيين ما يجب أن يُروى ويظهر على السطح. إنه قابع في الذاكرة ولم يعبر بعد إلى النسيان، واستعادته ممكنة. أزيح تاريخ من المآسي والأحقاد، لكنه حي يُرزق ومتمكّن من الذاكرة.

 
اللبناني، أو بعض اللبنانيين، يحفظون في ثقافتهم حقبة العنف القاتل. يحمِّلون الفلسطيني، أو أكثرية الفلسطينيين مأساة  القتل والدمار والمجازر. يسهل استعادة هذه الأحداث من الذاكرة. إنها بحاجة إلى سوء تفاهم أو حادث يقع خطأ. يحمِّلون الفلسطيني جلجلة عذاب الوطن والطائفة، ولا يرون البتة أنه يعترف بذلك. لا يطيب لأحد لم يعش الحرب أن يستمع ويستمتع بسرديات المعارك والمجازر وطرق الخطف والقتل والتعذيب. لذا، فإن العداء كامن ويتخذ أحياناً نكهة عنصرية: الفلسطيني متهم ولو كان من مواليد ما بعد الحرب اللبنانية الفلسطينية.
 
للبناني، في ذاكرة ومذكرات الفلسطيني، متهم ايضاً. هو ابن العذاب اليومي في مخيمات البؤس، قبل اندلاع ” الكفاح المسلح”، وهو اللاجىء الذي يعامل معاملة إذلال قتالي ضد “اسرائيل”، وتحديداً بعد خسارة كامل فلسطين في حرب الخامس من حزيران. يومذاك، ما عاد ممكناً ضبط السلاح.. تعايش الدولة والمقاومة بات متبادلاً بين المتاريس وجبهات القتال.
 
لنتجرأ النظر في مرآة الذاكرة. إنها تحفظ لنا صورتين اثنتين: صورة الفلسطيني وقد صار ببندقيته، صاحب القرار والسلطة في أماكن انتشاره العديدة، مصحوباً بالحلفاء اللبنانيين. وصورة اللبناني “الصافي” الذي امتشق السلاح للوقوف ضد زحف الفلسطيني وانتشاره وارتدادات العنف “الاسرائيلي” على لبنان.
 
وحدث أن دخلت “اسرائيل” بيروت وأجلت الفلسطينيين وأسلحتهم منها، ومن معاقلهم في الجنوب وبعض الجبل والبقاع، مخلّفةً بعد ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا.
 
هاتان الصورتان تفتحان “البوم” المأساة. 
 
 كل هذا الكلام الوارد أعلاه، لا يفصح عن عدد المعارك والجبهات والاجتياحات وأنواع القتال وأنماط الثارات وسلوكيات التدمير وحتى الإبادة. هناك قرى أزيلت، مخيمات اقتحمت، مدن خرّبت، أناس قتلوا على المعابر من دون أي ارتكاب.
 
يكفي أن تكون من الطرف الآخر لتصبح مشروع ضحية أو مخطوفاً أو سلعة تبادل. لا أرقام حقيقة لعدد القتلى: مئة ألف؟ أقل قليلاً؟ أكثر قليلاً؟ لا يهم. هناك عشرات الألوف الذين سُفكت دماؤهم ومُثّلَ بهم. تبارى الفريقان باهداء بعضهما المجازر. كل مجزرة يُرد عليها بمجزرة أشد بشاعة. لقد تحوّل لبنان إلى مقبرة كبيرة تنتشر بينها أسماءً لمفقودين ومعذبين ومفتدين. كم أماً بكت؟ كم عائلات تشرّدت. ومع ذلك هل يجوز السكوت عما مضى؟ أم يلزم فتح هذا الملف بهدوء، لتحصل المصالحة الحقيقية.
 
 حتى الآن لم نبلغ سن الرشد الإنساني. المطلوب ليس التناسي والتغاضي وذر رماد الكلام المعسول عن الفريقين. لا بد من الاعتراف، أن عدم الاعتراف بما حصل هو نار تحت الرماد.
حدث في جنوب افريقيا ما هو أشد فظاعة وشناعة بين البيض المستعمرين وبين السود أهل الأرض الأصليين. عنف سلطة عنصري في مواجهة جبهات وحركات تحرير. وبعد حصار دولي، ومقاطعة عالمية، اضطرت السلطة البيضاء إلى الرضوخ، فكان التغيير الكبير على مستوى السلطة والمساواة بين البيض والملوّنين… إنما ذلك لم ينجح، لو لم تحصل المصالحة والمصارحة بين الطرفين، حاملي جرائم القتل والفتك والعنف. ومن المفيد الإستفادة من ذلك المنهج. ومن غير المفيد أبداً إعلان مصالحة ببيان من بضع كلمات سياسية بالغة التهذيب، عديمة الدلالة، تصدر عن هيئة فلسطينية رسمية، ويتلقفها اللبناني سياسياً من دون أي إجراء تصالحي حقيقي يفتح الملف ويعترف فيه ويُبني على الشيء مقتضاه.
 
تجربة جنوب افريقيا نموذجية: لا بد من وصف ما حدث وصفاً دقيقاً، والاعتراف الشخصي بالارتكاب  المحدد. وصف، إذن، واعتراف علني. ويسجل ذلك في سجل “ذاكرة الأمّة”. وهذا غير كاف، على المعترِف بالارتكاب أن يعتذر ويطلب الغفران، مقابل أن يصدر المتضرر أو من يمثله قرار العفو. لا عفو قبل الاعتراف وقبل إعلان الندم. على أن يلي ذلك، تعميم الثقافة الوطنية  من دون أي تمييز عنصري.
 
لقد حصل ذلك في جنوب افريقيا. تمَّ تنقية الذاكرة بالاعتراف والغفران. عندنا، لا تزال الذاكرة تنز ذكرياتٍ لأحداث ممنوع الكلام عنها. كتمانها لا يمحوها، بل يضعها على منصة المكبوت فقط. الفلسطيني يكبت مآسيه ويعلقها على بعض اللبنانيين، واللبناني يظل على توجسه. فكل ما حدث قد حدث، والعودة إليه ممكنة، مما يسمّم الإقامة معاً في دولة واحدة.
 
لم تجرِ مصالحة فلسطينية لبنانية. الفريقان يتوجسان من فتح الملفات. لعل أهم الأسباب أن ملف الحروب بين اللبنانيين مقيم في العتمة. لم يُدفَن. لم تتم المصارحة والمصالحة والإتفاق على نظام يتخطى الإنقسام الذي يشرخ اللبنانيين أفرقاء متنافرة عند كل منعطف. فالذين قاتلوا في الحرب لم يندموا، لم يعترفوا، لم يعوّضوا على الضحايا، لم يبتدعوا نظاماً مضاداً للحروب الأهلية. اكتفى بعض القادة ببيان سياسي واعتذار مكتوب بحبر عادي، لا يشبه الوثائق الممهورة بالاعتراف بالقتل والمختومة بدماء الشهداء.
 
 هل من بداية؟
 
 المجتمعان اللبناني والفلسطيني مؤهلان لخوض تجربة من خلال انتقاء مجموعتين، بهدف التحدث عن الماضي كماضٍ فقط. ووصف هذا الماضي وأخذ العبرة منه، والتطرق إلى البديل العنفي في حال عدم  التوصل الى تواصل وطني إنساني سلمي.
 
بلى، باستطاعة الفلسطيني واللبناني أن يتعايشا معاً من دون زَغَل، بعد حماسية واعتراف وتثاقف، بشرط أن يكون اللبنانيون مستعدين للإعتذار من ضحاياهم اللبنانيين أولاً. الأول ممكن، الثاني (أي اللبناني) صعبٌ إن لم يكن مستحيلاً. 
 
ومع ذلك لا بد من المحاولة، اذ لا بديل لها، غير ما نعرفه اليوم من تربص وتكاذب وتملّق وخبث وإلى آخره من عدم الثقة والعيش المشترك بالآفات والأزمات.
 فلنبدأ تجربة شبابية… لعل…