* باحث وأكاديمي لبناني
الكُتّاب الذين تناولوا رحيل الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي المناضل اللبناني الفلسطيني العربي محسن ابراهيم ومواقفه، توقفوا عند حفل تأبين رفيقه في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية جورج حاوي في 16 أيلول 1982، وقوله إن الحركة الوطنية اللبنانية إرتكبت خطأين خلال الحرب الأهلية 1975 – 1990، أولهما أنه في معرض “دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينيّة فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً”. أما الثاني فكان “استسهال ركوب سفينة الحرب الأهليّة تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي”. توهّم البعض أن ابراهيم يتنصل من تجربة القيادة المشتركة للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في لبنان، ثم إطلاق المقاومة اللبنانية. هذا مجرّد مقطع في مواقف ابراهيم السياسيّة من القضيتين الفلسطينيّة واللبنانيّة على حدّ سواء.
والنص عبَّر عن نقد جريء للتجربة التي خاضها ابراهيم وحاوي والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط في رئاسة المجلس السياسي، التي شغل ابراهيم موقع الأمين العام التنفيذي فيه. والواقع أن ابراهيم درج في مناسبات متعددة على نقد الممارستين السياسية الوطنية، اللبنانيّة والفلسطينيّة على حد سواء. علماً أنه لم يقطع علاقته مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينيّة في أحلك الأوقات، طالما أنها في خندق الصراع مع العدو الإستيطاني الصهيوني. إذ من البديهي أن يظل مع هذه القيادة حتى خروجها مع المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، ويبقى هو يدير مقاومتها. لكن الذين اقتطعوا المقطع السابق، فاتهم أن مواقف ابراهيم درجت على الوقوف مع القضيّة دوماً، بما فيه تلك المرحلة التي باتت فيها العلاقة مع منظمة التحرير بمثابة “تهمة” قد تطيح رأس من يجهر بها. حدث ذلك خلال عقود الوصاية السورية في لبنان، في مرحلة ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982 وخروج المقاومة الفلسطينيّة منه.
وموقف ابراهيم لم ينفصل عن مسألة محوريّة في مساره الفكري لحمتها وسُداها الحرص على بقاء جذوة الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل من جهة، واستمرار القرار الوطني الفلسطيني المستقل في أيدي أصحابه، في مواجهة أكثر من جهة عربيّة ودوليّة تعمل على مصادرة هذا القرار، واستخدامه تفاوضيّاً على طاولة المساومات. هذا على الصعيد السياسي العربي والدولي من جهة ثانية.
المدماك الأول في مواكبة ابراهيم للقضية الفلسطينيّة يعود إلى انتسابه المبكر إلى فرع لبنان في حركة القوميين العرب، ثم المساهمة في قيادة فروعها العربية في مرحلة الخمسينيّات مع جورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد و…. وقد حافظ ابراهيم على هذا الأساس مع الشروع في عملية التحوّل اليساري في الحركة بعد المرحلة الناصريّة، والتي قدّم خلالها ياسر عرفات وحركة “فتح” إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يرى بداية في “فتح” تنظيماً أخوانيّاً، وبينه وبينهم ما صنع الحداد من محاولات اغتيال وإعدامات ومعتقلات. ثم تكرّس الرافد القومي في نشوء منظمة العمل الشيوعي في العام 1970، وهو ما ترك بصماته على الحزب الشيوعي اللبناني عندما جرى تعريبه بحياكة ثنائيّة من كمال جنبلاط وابراهيم نفسه، مع قيادة حاوي، بعد أن كان الموقف السوفياتي من قرار التقسيم عام 1947 والإعتراف بالكيان الصهيوني عام 1948، قاد إلى عزلة الحزب الشيوعي السوري اللبناني والاحزاب العربية المشابهة والاتحاد السوفياتي أيضاً. إنطلق ابراهيم في موقفه من الصراع العربي – الإسرائيلي من وطنية لبنانية، تدرك أن ما بين لبنان واسرائيل هو صراع مصيري، وإذا كان الشعب الفلسطيني هو في خط المواجهة الأماميّة مع أعنف غزوة كولونياليّة إستيطانيّة، مستمرة ومتسعة، إلا أن أهداف هذه الغزوة تتعدى جغرافية فلسطين لتطاول المنطقة العربيةابأسرها. وعليه، كان ابراهيم يرى أن الفلسطيني الذي يقف في متراس الصمود منذ قرن من الزمن لا يدافع عن وجوده الوطني فحسب، بل هو يحجز ويضبط ـ وِسْعَ طاقته ـ خطراً يتهدّد كل أرض الجوار العربي لفلسطين، وفي المقدمة منها لبنان. من هذا المنطلق، اعتبر ابراهيم دعم الحركة الوطنية اللبنانية لنضال الشعب الفلسطيني قضية وطنية، تخص لبنان مثلما يجب أن تخص كل بلد عربي تضعه إسرائيل ضمن استهدافاتها المباشرة وغير المباشرة. وانطلاقاً من ذلك، رأى خاصتين تعبّران عن خطورة المشروع الصهيوني في المنطقة، كونه أولاً مشروع اغتصاب إستيطانياً متوسّع الأطماع خارج حدود فلسطين التاريخيّة. وثانياً أن دولة هذا المشروع تمارس علاقة سيطرة وإخضاع للمنطقة العربية، تحجز من خلال جبروتها العسكري واستناداً إلى علاقتها العضوية بالامبرياليّة وقوى الإستعمار، أي محاولة للنهوض العربي، وتعمل على تعطيلها، سياسة وتنمية وتطويراً اقتصادياً واجتماعياً.
لكن لبنان الذي أراده ابراهيم داعماً لفلسطين وقضيتها، تحوّلت مهمته بعد الإجتياح الصهيوني وخروج المقاومة الفلسطينية منه، وقيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، من مهمة الدعم إلى ساحة قتال مباشر مع جيش الإحتلال الإسرائيلي، دفاعاً عن نفسه بطبيعة الحال، وتحت راية لبنانية وبسواعد أبنائه وبنادقهم، وحماية لسيادته وحريته واستقلاله، وفي هذا السياق كان اعلان قيام جبهة المقاومة الوطنية.
جرى تشييع محسن ابراهيم يوم الخامس من حزيران بما يحمله من رمزيات فلسطينيّة وعربيّة، ونعته فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل وفي لبنان، ونكّست السلطة الأعلام حداداً على رحيله فوق مؤسساتها في الأرض المحتلة. وسبق ومنحه رئيس السلطة ورئيس الهيئة التنفيذية لمنظمة التحرير ىالفلسطينية محمود عباس عام 2017، أعلى وسام فلسطيني تقديراً لعطاءاته ونضاله الوطني والفلسطيني والعربي والأممي. للمرة الأولى تعلن سلطة، الحداد على رجل لا صفة رسميّة له، ولا يحمل هويتها حتى، بينما بعض اللبنانيين شعروا أنهم استراحوا من رجل كان بمواقفه الفكريّة والسياسيّة وسلوكه الاخلاقي نقيضاً لممارساتهم السياسيّة وفسادهم.