مقال جسور
مخيم شاتيلا: أرض ضيِّقة لا تتسع لتنهدات صدور أهلها

المعتصم خلف*
كما لو أننا وصلنا…
“لم نصل تماماً” قال محمود هاشم، وهو يمر معي في شوارع صبرا وصولاً إلى بداية مخيم شاتيلا. حيث ينفصل عالم بيروت المفتوح على جميع احتمالات السماء والهواء إلى أرض ضيقة لا تتسع لتنهيدة…
بهدوء يتبدل العالم بين سماء بيروت وسماء مخيم شاتيلا التي تبدو أبعد عن الأرض. والهواء فيها شهيق مستمر لا ينتهي. أبنية ضيقة تنتزع من عيونك مهابة الموت وفجاءته. عليها بقع غامقة وعفنة تنبعث منها رائحة الرطوبة. رائحة تذوب في فمك وأنت تكتشف أن للمخيم مذاقاً مُراً يشبه تجربة ممتدة إلى الموت وضيق الحياة. يأخذك المذاق إلى تاريخ طويل عاشه المخيم على مراحل أسست اليوم لهويته المتداخلة التي صنعت منه هذه الأرض الضيقة التي تجمع فيها الناس على اختلاف جنسياتهم وهوياتهم في محاولة للنجاة. ولا تحتاج لدليل لتدرك أنك في واحد من أصغر المخيمات الفلسطينية الإثني عشر المنتشرة في لبنان، بمساحة لا تتجاوز كيلومتراً مربعاً، كيلومتر واحد يتسع لما يقارب الـ 14 ألف إنسان بحسب التعداد الذي قامت به لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وإدارة الإحصاء المركزي والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في عام 2017. لن تفهم أبداً كيف يعيشون في هذا الاكتظاظ إلا من خلال كلمات محمود وهو يقول: “إ في المخيم كثافة تعتبر الأعلى تقريباً لأنه تأثر بالمجريات السياسية والحروب والثورات التي حدثت في السنوات الأخيرة. فقد لجأ إليه الفلسطينيون من سوريا، والعمال السوريون، عدا الجنسيات الأخرى من مصريين و بنغلادشيين وسودانيين، الأمر الذي دفع لبناء طوابق أعلى لمجاراة الطلب”.
الأبنية المرصوصة فوق بعضها لا تحتاج معها لدليل كي تدرك أن من الرفاهية أن نسمي مخيم شاتيلا ملجأ للفقراء. لقد تحول المخيم إلى أرض يركض نحوها كل الذين يريدون أن يخترعوا عالمهم الضيق الذي لا يتسع لاحتمالات بيروت كلها، عالم صغير يقف على حدود المخيم يشكل حالة استثنائية من العيش والحياة والتأقلم، تحتاج إلى قدرة رهيبة على تجاوز الموت بمراحل، لتترك عالم بيروت خلف ظهرك وتدخل إلى عالم ضيق يعيش فيه الناس على القليل.
من هذا القليل تبدأ حكاية المخيم الذي يتأثر أهله في هذه المرحلة بالأحداث السياسية التي يعيشها لبنان، وتفرض عليهم ضغوطاً أكبر من التي كانت قبل انهيار العاصمة على جميع الأصعدة. وتحديداً الانهيار الاقتصادي، الذي بدأ يحدد حياتهم في إطارات أضيق عن التي كانت قبلاً، ولكن هذا التغيير لا يعتبر الأخطر يقول محمود هاشم، إذ إن أهل المخيم يعانون الفقر منذ سنوات. ولكن الفقر يأخذ الآن منحى آخر. هو قدرة الناس على تأمين الأساسيات، نتحدث هنا عن إلغاء وجبات طعام كانوا يتناولونها، في حين فرضت على أسر أخرى تجنب الكثير من الأطعمة التي كانت تعتبر من البديهيات. فلقد تحول الطعام في المخيم إلى لون واحد يتكرر لضمان الاستمرار فقط. ثم قال وهو ينظر نحوي مباشرة: “لا أحد يموت من الجوع”.
“لكن الخوف لا يكمن هنا تحديداً”، قالت ليلى التي كانت ترافقنا أيضاً وسط الأزقة:” الخوف لا يكمن هنا تحديداً في الجوع كما يظن الناس”، وابتسمت، وشدتني من يدي إلى منزل يسكنه محمد العودة عبارة عن غرفة واحدة يسميها الصالون. سوف تتحول تدريجياً مع رحيلنا إلى غرفة للنوم. غرفة صغيرة أحشر فيها ظهري بمسند الكنبة كي أعطي أطفالي الثلاثة مساحة أكبر لكي يجلسوا حولي.” يفصل بيننا وبين المطبخ ستارة تغطيها بقع خضراء من الرطوبة يستحيل تمييز لونها، تعلوها رسومات صفراء بدلت ألوانها كثيراً. في أحسن الأحوال تذكرك تلك الغرفة البلا نوافذ بالاختناق. تشعر وأنت تأخذ نفسين سريعين أنك تأخذ حصة غيرك من الهواء..
وها هو محمد يجلس أمامي كشبح رجل كان يسكن هنا. يشبك يديه، ويرد على سؤالي حول ما يخيفه في المخيم: “أنا أعلم أن العالم يظن أن الفقر هو ما يسيطر على حياتنا. ولكن الفقر لا يخيفنا تحديداً، بل ما يُسكن هاجس خوفنا هو المخدرات وتأثيرها على شباب المخيم. نخاف على أطفالنا من المتعاطين، ومن انتشار المواد المخدرة في المخيم. نعم يشكل قوت اليوم الهدف الأساسي لحياتنا، ولكن ما نتمنى أن ينتهي حقاً هو انتشار المخدرات بين شباب المخيم، لأنها تضاعف الضغوطات علينا، وتفرض علينا نمط حياة مليء بالقلق والخوف”.
سألته ما الذي يفعله لكي يتجاوز تأثيرات المخدرات على حياته، قال لي: “لا أخرج ببساطة، حددت حياتي وحياة أبنائي بهذه الغرفة. الخروج يكون للضرورة فقط، والأطفال أحرص أن يلعبوا في الخارج، مع أن المخدرات أصبحت منذ مدة أقل، ولكن لم تنتهِ وفي ظل الانهيار لم تتأثر أبداً”.
يقول محمود هاشم عفواً: “هناك خطة ممنهجة لتدمير المخيم من الداخل، وغياب السلطة الموحدة التي يمكن من خلالها فرض سيطرتها يعقد من الأمور، و ترى تأثير غيابها الكبير على الناس من خلال خوفهم”.
ينظر محمد ا ينظر إلى الأرض بعيون تبدو أثقل من حجرين كبيرين، مشدوداً إلى الأرض تخرج منه نتف كلمات تشبه الجمل، “هذا المكان لم يعد ملجأ للفقراء، كان كذلك قبل الانهيار الذي يعيشه لبنان، ولكن الآن تحول إلى مكان يهرب نحوه كل الذين استنفذوا كل محاولات النجاة، هذه الأرض الأخيرة التي يسكن فيها الناس الذين لا يملكون رفاهية الحياة، نعيش بالتقسيط حياة لا نجاة فيها، نعلم معها أننا نعيش بلا جدوى، ولا ننتظر أي أمل. لأننا نعلم أن الحياة هنا بلا أمل، بل هذا واقعنا وسوف يستمر. الأمر الوحيد الذي يتغير هو مدى سوئه، لذلك لا تتوقع منا أن نتحدث عن النجاة دون أن يصيبنا يأس رهيب من شكل هذه النجاة. جنسيات مختلفة هنا، ما الذي يدفع السوري والبنغلاديشي والسوداني للعيش هنا، ليس فقط رخص الأسعار، بل لأنه يعلم أن بيننا عقد شفهي وافقنا عليه جميعنا أن تكون هذه الأرض هي الأخيرة بعد أن نفقد كل محاولات النجاة “.
ضحك محمد ساخراً متمنياً: “ألا تنقطع الكهرباء، وأشار إلى مروحة صغيرة تكاد تنهار في أي لحظة، تدور بملل بطيء وبالكاد تنفخ هواءها النحيل، وقال: هذه التي تصبِّرنا على الحر. اشتراكات المولدات أسعارها مضاعفة ولساعات قليلة بسبب ندرة المازوت. وكهرباء الدولة لا تأتي إلا نادراً لساعة واحدة كحد أقصى. أما في الليل، فترى شاتيلا الحقيقي عندما تنقطع الكهرباء، وترى أهل المخيم كلهم أمام بيوتهم يبحثون عن خيط هواء ليتنفسوه، عُراة لا يستطيعون النوم بينما منازلهم تلتهب بالحرارة والرطوبة وقلة الهواء. المحظوظ منهم من يملك شباكاً على الشارع. نحن هنا كما ترى في عز النهار ولا نرى شيئاً داخل المنزل دون كهرباء”.
خرجت ومحمود هاشم إلى أزقة المخيم، حاولت أن أنفض نتف العتمة التي انتشرت في عيوني. الشمس لا تصل إلى أرض المخيم، كأننا في حفرة تمتد إلى ما لا نهاية له.هذا هو المخيم.. ينبض بما يشبه نتف الحياة التي تومض وتنطفئ، بينما أهله يحاولون النجاة، شبان يتراكضون وأمهات تصرخن بما يشبه النداء، ورائحة برغل محروق جف ماؤه في مطابخ ضيقة لا تتسع لشخصين، شبابيك نصف مفتوحة، بينما ترتجف من حولها أقدام متعثرة تستند بما يشبه التنهد فوق جدران ترشح رطوبتها من كل مكان.
لقد كان المخيم قبل الآن يرى الحياة ممكنة. أما الآن فيعرف أهله أنهم في آخر الصف يقفون في طابور بيروت الطويل، يصلهم من بعد الجميع ما يشبه وهم النجاة. يعتصرونها ليُخرجوا منها حياتهم التي تحولت مع الوقت إلى نتف حياة، تنبض ببطء وسط البطالة والعنف والمخدرات والخوف. الخوف الحقيقي من المستقبل الذي ينتظر المخيم في ظل غياب السلطة التي يمكن أن تعمل على تحديد أزماته التي يعيشها يومياً ويغرق أهلها في الفوضى التي صارت ميزة أساسية لمخيم شاتيلا في ظل غياب التنظيم الذي يتمنى أهله أن يكون حاضراً لينهي أزمات المخيم المتداخلة.
* صحافي فلسطيني سوري