مقال جسور
مخيم نهر البارد الجديد: البحث عن جذور الذكريات والوقائع

*أحمد الدلو
يكره الفلسطينيون عموماً شهر أيار، لأن فيه أعلنت العصابات الصهيونية قيام دولتها على أنقاض قراهم ومدنهم وجثامين أهلها. لكن وبالنسبة لأهالي مخيم نهر البارد، شمال لبنان، أضحى هذا الشهر مكروهاً بشكل مضاعف بعد أحداث عام 2007. وأصبح تاريخاً مفصلياً في تغريبه الفلسطينيين في لبنان، يفصل بين حقبتين في حياة المخيم، فما قبله لا يشبه ما بعده.
تغيّرت جغرافيا المخيم بعد دماره وإعادة بنائه، وديموغرافيا المخيم المعطرة برائحة فلسطين سحقتها الحرب واستُبدلت بأحياء مدنية. محت الحرب ما كان يحتويه من ذكريات حفرت على جدرانه وداخل أزقته، فانسحبت على التركيبة الاجتماعية وأحدثت تغيّراً كبيراً داخل مجتمع يحوي أكثر من 25 ألف نسمة حسب إحصائية لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني الصادرة عام 2017. شواهد وأحياء كثيرة فقدها المخيم، مثل ملعب الشهداء الخمس، كورنيش البحر، منطقة الصخور، ساحة المهجرين، مسابح النهر، جسر القطار، المسلخ، والتعاونية؛ لكنها بقيت محفورة بذاكرة ابناء هذا المخيم الذي أنشئ عام 1949، ولجأت اليه عائلات فلسطينية معظمها من شمال فلسطين، لذلك حملت أحياؤه منذ نشأتها أسماء قرى صفورية وسعسع والدامون وعمقا والسموع والبروة وغيرها.
سعسع وصفورية
يتناقل أبناء المخيم قصة قديمة بين أهالي صفورية وسعسع. أهالي صفورية كانوا يطلقون على حيّهم لقب “عاصمة المخيم”، بينما كان يؤكد أهالي سعسع أن حيهم هو الأوسع والأجدر بهذا اللقب، وكان في المخيم القديم خط فاصل بينهما هو الشارع العام. المنافسة بين البلدتين شملت الطبقة المتعلمة وانسحبت على أطباق الطعام وعلى القطاع الرياضي خاصةً، فالمباراة الأشهر والأكثر متابعة كانت بين أعرق فريقين؛ نادي الناصرة ممثلاً صفورية ونادي العودة ممثلاً “الكم التحتاني” بما فيه حي سعسع. لم يشهد المخيم جمهوراً أعرض من جمهور هذه المباراة، ولا حتى عندما تمت استضافة ناديي النجمة والأنصار في المخيم. وغالباً ما كانت المباراة تنتهي بفارق هدف، يحتفل بعدها الفريق الفائز طيلة أسبوع كامل.
هذه الأجواء اختفت تماماً، ليس لأن الفريقين اتخذا قراراً بعدم المشاركة في بطولة واحدة، وإنما لعدم تسلم أرض ملعب الشهداء الخمس ” لوجود مشاكل قانونية على العقار، يقول عضو اللجنة الرياضية في المخيم خير واكد. أما البديل فهو ملعب مستأجر بعقد لخمسة أعوام فقط، بتمويل منظمة “اليونيسيف ومؤسستي “أنيرا” و”التعليم فوق الجميع” ضمن مشروع “تمكين الأطفال والشباب اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال الرياضة. لكن الخوف هو من”عدم إيجاد ممِّول جديد لإعادة استئجار الملعب الذي ينتهي عقده بعد عام”.
مخيم ظل
عاد أهالي المخيم الى البنيان الجديد بعد إعادة الإعمار وتسلم بيوت صغيرة المساحة متراصة بشكل أجمل نوعاً ما، لكن تفتقد الى روح المخيم القديم. فقد مرت أعوام لتأمين تمويل الاعمار وإزالة الركام .وفي عام 2011 تسلمت أول عائلة بيتها الجديد. وفي المحصلة عاد الناس الى مكان ظل أسمه مخيم. وظهرت آفات كثيرة بسبب الضغوط النفسية والتركيبة الجديدة المعقدة خلفت ثلاث جرائم هزت المخيم. أولها عام 2013 عندما أقدم مراهقون على قتل شاب في مقتبل العمر. وفي شباط الماضي قُتلت امرأة ستينية ورميت جثتها في البحر، وفي تشرين الاول الماضي قتل شاب أخاه تحت تأثير المخدرات. وفي عام 2011، قتل الفلسطيني أبو خضر الحصري، في قرية عكارية أثناء عمله بتوزيع البوظة.
يعتبر المعالج النفسي عمر وهبة، أن “هذه المشاكل فردية لا يمكن تعميمها على المجتمع. ويعيد تزايدها إلى تردي الاوضاع المعيشية التي أدت إلى ارتفاع معدل السرقات والجرائم على الأراضي اللبنانية كافة. كما أن ازدياد نسب البطالة والفقر، أدخل ظواهر سلبية فتكت بمجتمع الشباب، فانتشر ترويج المخدرات وتعاطيها بكثرة، وللحد منها نشطت مبادرات مجتمعية توعوية تجوب مقاهي وأحياء المخيم وتسعى بإمكانيات محدودة معالجة المدمنين.”
اقتصاد خاسر
كان محمد الحصري، يملك قبل الحرب معمل بوظة ضخم يعمل بورديتين صباحية ومسائية، وكلّف المشروع قرابة المليون دولار انتهى مع الحرب كما يقول نجله خضر. وحين أعادت العائلة تشغيل المصنع بعد الحرب بطاقة إنتاجية محدودة، سرعان ما عاد وتوقف المشروع بعد حادثة مقتل الحاج محمد (أبو خضر) في قرية لبنانية بدافع السرقة. يقول خضر، إن “المشروع توقف نهائياً منذ عام 2012، وأصبحت العائلة بلا مدخول، بل وحُرمت من ميزانية التعويض التي كانت ستطالها من الهبة الإيطالية اذ تم تحويلها إلى مشاريع عامة”.
مشاريع كثيرة تضررت نتيجة تدمير المخيم، فأقفل قرابة 300 مشروع عائلي صغير، وتكبدت مشاريع أخرى خسائر فادحة وأقفلت لاحقاً نتيجة فرض الحواجز على أطراف المخيم، وتوقف دخول اللبنانيين إلى أحد أكبر الأسواق التجارية شمال لبنان.
كان وسيم أبو الحجل يملك منجرة للخشب ويملك والده سوبر ماركت، ونتيجة الحرب دُمرا، ولم يعوَّض عليهما الخسائر. يعمل وسيم حالياً في مشروع إعادة إعمار المخيم بيومية تبلغ 100 ألف ليرة أي ما يعادل بضعة دولارات اميركية ووالده عاطل من العمل. سيتسلم وسيم ووالده محالهما المعاد اعمارهما، في شهر شباط المقبل، ولكن بمساحات مختلفة. منجرة الخشب التي كانت تبلغ 45 متراً مربعاً، أصبحت الان 12 متراً مربعاً.
ابراهيم عثمان متزوج ولديه ستة إولاد، يعمل مدرساً في أحد مدارس عكار الخاصة، بعد ان كان يعمل في تجارة البلاستيك والكرتون قبل حرب المخيم. خسر منزله بعد الحرب، وبانتظار إعادة اعماره، يسكن للعام الرابع عشرة بالإيجار. قبل دمار المخيم، كانت اهتماماته تنحصر بعائلته وعمله ومتابعة دراسته الجامعية، ولكن بعد الحرب تهجر من بيته وتجارته، وبقيت الديون تلاحقه وهي مستحقات مالية متعلقة بتجارته حينها. يقول: “في عام 2014 زادت ظروف أبناء المخيم صعوبة عندما توقفت “الأونروا” عن دفع بدل الايجار والتقديمات الاجتماعية بوقفها خطة الطوارئ الخاصة بأهالي نهر البارد. ومع نهاية عام 2019 ونتيجة تدهور الاوضاع الاقتصادية في لبنان تفاقمت ظروفنا مأساوية وتراكمت علينا الديون وأصبحنا في ورطة حقيقية”.
يشير ابراهيم إلى أن “مدخوله الشهري اليوم أصبح يعادل أقل من 60 دولاراً، بينما يحتاج لمصروف شهري يبلغ خمسمائة دولار”. ويطالب “الأونروا” بتسريع عملية اعادة الإعمار، والبدء الفوري بدفع بدل إيجار منصف وعادل للعائلات التي لم يتم اعادة إعمار منازلها بعد تدهور ظروف هذه الفئة المهمشة. ويناشد المرجعيات الفلسطينية بالاهتمام في الجانب الاجتماعي للفلسطينيين وتحييدهم عن الخلافات والمماحكات الفصائلية، وعدم حصر الاهتمام بالمنتسبين للفصائل من دون غيرهم”. ويدعو “الحكومة اللبنانية لإنهاء الحالة العسكرية عن المخيم وتسهيل تواصله مع الجوار لإعادة تحريك الحركة التجارية داخل المخيم، وإزالة التشريعات والقوانين التي تضيق على الفلسطينيين ومقاربة الوجود الفلسطيني في لبنان من منظور أخوي وانساني وحقوق اجتماعية ضرورية”.
إعادة اعمار بطيئة
تعرض منزل أبو وسيم، وغيره للقضم نتيجة معايير المخطط المعماري الذي رافق إعادة الاعمار، فمساحة المخيم المكتظة سابقاً يُعاد بناء منازلها، ولكن مع استحداث شوارع كانت أزقة ضيقة في الماضي. ومع بدايات عام 2022 ستنتهي 75 في المئة من عملية الاعمار، ومع وجود ميزانية لبعض الرزم التي تم البدء بها، أو على الأقل وضعت مخططاتها، يمكن أن تصل النسبة إلى 85 في المئة. لكن ذلك لم يخفف سخط الاهالي، فالحرب انتهت قبل نحو 15 عاماً ولم ينته الإعمار. ومع ذلك يقول مدير مؤسسة “شاهد” لحقوق الانسان، محمود حنفي:” إن ما حدث يُعدّ إنجازاً وإن الصمود والوجود هما الذان انتصرا في النهاية، لأنه لم يكن هنالك قرار بإعادة إعمار نهر البارد، أسوة بمخيمات دمرت سابقاً ولم يتم إعادة بنائها “. ويضيف أنه “وعلى الرغم من وتيرة الاعمار البطيئة الا أن الأونروا جهدت في الإعمار، وهي مقصرة في آن وينبغي عليها إكماله”. ويعتبر أن “أزمة نهر البارد كانت درساً بليغاً للفلسطينيين الذين أوصلوا رسالة قبل تدمير المخيم وبعده، أنهم ليسوا طرفاً في أي نزاع سياسي لبناني وخارجي، برغم الكثير من التوترات الأمنية في لبنان. فقد حافظت المخيمات الفلسطينية على حيادتيها مستفيدة من تجربة نهر البارد المريرة “.
*صحافي فلسطيني من “تفاعل”