مقال جسور

مراوحة إعلاميّة في دائرة تنميط الفلسطيني

مراوحة إعلاميّة في دائرة تنميط الفلسطيني
*صحفية مستقلة ورئيسة “مؤسسة ماجد أبو شرار الإعلامية”.   

من شبه المستحيل أن تصرِّح بفلسطينيتك في لبنان من دون توقع ردّة فعل ما، إيجابية كانت أم سلبية. كونك فلسطيني/ة في لبنان يعني أن في جعبتك الكثير من القصص الطريفة أحياناً والمؤلمة غالباً، إن دلت على شيء، فإنما تدل على التنميط الذي يغلف صورة الفلسطيني في البلد المضيف. 

 
القصص التي سمعناها أو عايشناها عن تقبّل اللبناني للفلسطيني كثيرة. لا أنسى ما رواه لنا أحد الشبان في إحدى مجموعات النقاش المركزة في أحد مخيمات اللجوء عن حادثة حصلت له أثناء دراسته الجامعية. “تعرفت على بعض الطلاب الأغنياء في الجامعة، وعندما عرفوا أنني فلسطيني منعهم أهلهم من التحدث معي ثانية. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، بعد تعرفهم علي، سألوني إن كان جميع أهل المخيم مثلي! سألتهم كيف يفترض أن نكون؟ أجابوا: “إنهم يتخيلون أن لدينا أظافر طويلة وشعراً طويلاً ونقتل أي شخص نتحدث معه”. 
 

كُثر منا سمعوا العبارة الإستفهامية: “إنت عن جد فلسطيني/ة؟!”، يتبعها عادة عبارة أخرى من المفترض أن تخفف على المتلقي من وطأة العبارة الأولى: “لا إنت غير”! في دلالة على الصورة السلبية الراسخة بشكل عام في ذهن اللبنانيين عن الفلسطيني عامة واللاجىء خاصة. فأن تكون فلسطينياً/ة متعلماً/ة أو مثقفاً/ة أو انيقاً/ة أو جميلاً/ة، صور تأتي مخالفة للصور الشائعة والمتداولة. 
 
لا يمكن التطرّق لصورة الفلسطيني في لبنان على المستويين الرسمي أو الشعبي من دون العودة إلى تاريخ وجود الفلسطينيين في هذا البلد المضيف، والدور المحوري الذي لعبه الإعلام اللبناني في ترسيخ العديد من الصور النمطية في ذهن المتلقي اللبناني. 
 
تمَّ النظر للفلسطيني بعيد نكبته ونزوحه القسري إلى لبنان على أنه عبء ثقيل على البلد ذي الموارد المحدودة والتركيبة الطائفية الهشة، ولكن سرعان ما تغيرت صورة “اللاجىء المحتاج” إلى أخرى أكثر إشكالية مع قدوم منظمة التحرير في السبعينيات، والدور الذي لعبته في الحرب الأهلية اللبنانية، وتحالفاتها مع بعض القوى على حساب قوى أخرى. حصل تحول دراماتيكي على صورة الفلسطيني الذي لم يعد يُنظر إليه كـ”لاجىء محتاج” بل كعدو يهدد أمن وإستقرار البلد. ولم تميِّز الصورة النمطية السائدة عن الفلسطيني، بين الفدائي الذي شارك في الصراع الدائر، واللاجىء المحكوم بقوانين مجحفة منذ اليوم الأول لوجوده على الأراضي اللبنانية، فالكل وُضع في خانة واحدة تراكمت سلبياتها مع مرور الزمن. خفّف خروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982 من حدّة التوتر بين الضيوف غير المرغوب فيهم والبلد المضيف، إلا أن النظرة السائدة بقيت محكومة بالصور النمطية والعنصرية في بعض الأوساط اللبنانية.  
 
في دراسة أجرتها “مؤسسة ماجد أبو شرار الإعلامية” بعنوان “صورة الفلسطينيين في لبنان: كيف يُنظر إلى اللاجئين الفلسطينيين مقابل كيف يرغبون في أن يُنظر إليهم” ، رأى 80% من المشمولين في الدراسة أن صورة الفلسطيني ليست جيدة في البلد المضيف. وبالرغم من سنوات طويلة من القوانين والممارسات التمييزية ضد الفلسطيني في لبنان حمّلت 50% من الشريحة المشمولة في الدراسة اللبناني والفلسطيني مسؤولية الصورة القائمة (السلبية) بسبب بعض الممارسات الفلسطينية والدور الذي لعبته منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. لكن 47٪ حملوا وسائل الإعلام اللبنانية المسؤولية عن هذه الصورة بسبب تغطيتها الصحفية السلبية للفلسطينيين داخل أماكن لجوئهم، آخذين في الإعتبار قوة التأثير التي لديها على المتلقي اللبناني.  
 
رسّخت وسائل الإعلام اللبنانية خلال سنوات طويلة صورة معينة عن الفلسطيني، غذَّت من خلالها مخاوف الجمهور اللبناني، ونادراً ما خرجت التغطيات الصحفية المختلفة عن الإطار الأمني في معالجتها لموضوع الوجود الفلسطيني في لبنان. أتت هذه التغطية عامة لتصور المخيمات على أنها بؤر توتر قابلة للإنفجار في أية لحظة، تهدد الوضع الأمني، وسكانها إما هم عبئاً على البلد المضيف بمطالبهم التي لا تنتهي، أو مخلّين بالأمن، أو مهددين بنيته الديموغرافية الهشة. 
 
التركيز على مواضيع حساسة لدى المتلقي اللبناني كفزّاعة التوطين واحتضان المخيمات لإرهابيين أو خارجين عن القانون، أو التسرّع في إلصاق التهم بالفلسطيني لدى وقوع أي حدث أمني، وتجاهل الواقع المعيشي والاجتماعي والقانوني للاجىء الذي يعيش تحت وطأة الحرمان والفقر بسبب إفتقاره لأدنى حقوقه في البلد المضيف، عزز الصورة السلبية والنمطية بإمتياز.
 
أظهرت دراسة أصدرتها مؤسسة مهارات بعنوان “رصد العنصرية في الإعلام اللبناني تمثيلات “السوري” و”الفلسطيني” في التغطيات الإخبارية” ، أن التحقيقات قليلة عن اللاجئين، شكلت نسبتها 7% في العينة المرصودة في الدراسة مقابل التقارير الإخبارية التي بلغت 90%، الأمر الذي لا يساعد على تكوين صورة متوازنة، لا سيما أن وسائل الإعلام تنشر التقارير الإخبارية كما تصلها من المصادر الأمنية دون العمل على إعادة صياغتها لتحاشي سلبياتها. وتلفت الدراسة إلى ندرة إعطاء التغطيات الصحفية الفرصة للنازح أو اللاجىء للتعبير عن مشاكله أو نظرته للشعب المضيف. 
 
وتشير إلى تجاهل الأخبار للممارسات السلبية تجاه “الغريب”، فهي ترد بنسبة قليلة، وعندما يكون الموضوع لافتاً بقوة، فيما يتم تجاهل المساهمات الإيجابية الاقتصادية والثقافية للاجئين في بلد اللجوء. 
 
لا يتحمّل الإعلام اللبناني وزر كامل المسؤولية عمَّا آلت إليه صورة الفلسطيني في لبنان، لكنه في صدارة المسؤولية بفعل إنتقائيته في إختيار مفرداته ومواضيعه وأسلوب معالجة تغطياته الخاصة بالفلسطيني، وتسرعه في إطلاق الأحكام لتحقيق “السبق الصحفي”، وتمسكه بقوالب نمطية خاصة بالفلسطيني في خدمة أجندات سياسية معينة. 
 
إذا لم تأخذ وسائل الإعلام اللبنانية في اعتباراتها ضرورة “أنسنة” الآخر بدلاً من “شيطنته” وتبتعد عن التعميم وتحرص على وضع الأمور في سياقها الصحيح، ستبقى عاملاً مؤججاً لخطاب يكرس النمطية والعنصرية، يبني على السلبي ولا يؤسس للإيجابي.