مقال جسور

“نحّال حلب”: قصّةُ شعبِ تائه ومستقبلٍ غامض .. قراءة في رواية تحكي تغريبة النزوح السوري

“نحّال حلب”: قصّةُ شعبِ تائه ومستقبلٍ غامض .. قراءة في رواية تحكي تغريبة النزوح السوري

مراجعة: رشا الزهراوي

روائية وكاتبة ومترجمة سوريّة

بين اللجوء والنزوح تقاطعاتٌ عدة. ليسَ فقدانُ الوطن فحسب؛ بل فقدان الانتماء بضياع الأرض والهوية، والتخلي عن أجزاء كثيرة من الذات في المكان الأم. لعقود طويلة كان اللجوء في العالم العربي حكراً على شعب سُلب وطنهُ قسراً، الأمر الذي فتح القرائح أدبًا وشعرًا وقصة وسينما لمحاكاة التغريبة الفلسطينية، إلى أن جاء العام 2011، فكانت التغريبة السورية التي ألهمت بدورها رواة وكتّابًا وأدباء وفنانين لتوثيقها واقعاً وخيالاً. ثمّةَ خيطٌ رفيع بين المأساة والأمل، الهوية والمكان، الحلم والخيال، اللجوء والمستقبل، ورحلةُ فقد الأوطان وسلب الحقوق والحريات والمعنى الإنساني، والكفاح لاستعادة كل ذلك… وهذا ما تضجّ به رواية “نحّال حلب”.  

أصلُ الحكاية

“نحّال حلب” ( The Beekeeper of Aleppo)[1]، رواية خيالية لكنها شديدة الواقعيّة، تروي قصّة التغريبة السورية وندوبَ الذاكرة والمكان, وتنتمي إلى المدرسة الروائية الرمزية، صدرت عام 2019، كاتبتها كريستي لَفتيري، وهي أستاذة جامعية تدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة “برونيل” (Brunel University) في لندن، لكنها في الأصل ابنة لاجئين قبرصيين في بريطانيا، وهي بهذا المعنى خَبَرَت معنى اللجوء وآثاره.

بَنَت كريستي لَفتيري روايتها “نحّال حلب” على قصص حقيقيّة عن محنة اللاجئين والنازحين السوريين، وتجري وقائعها بين عامي 2015-2016 مع عائلة سوريّة من مدينة حلب من الطبقة الوسطى، نزحت هرباً من الحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2011. “نوري”، الشخصية الرئيسة التي تدور أحداث القصة وتفاصيلها، رواية وحبكة درامية، على لسانه، غارق في هاويةٍ رماديةٍ، تشبه الهالةَ الداكنة في عَيني زوجته “عفراء” التي أصيبت بالعمى جراء انفجارٍ أفقدها ابنها وبصرها معاً، وتركها تصارعُ حياة بائسة لم يبق فيها ومنها ولها إلا الذكريات..  مجرد الذكريات لا أكثر.

غادر نوري مزارع النحل في حلب، وفرّ هارباً مع عفراء من سوريا إلى المملكة المتحدة سعياً لمستقبل آمن في رحلة مضنية جرّاء ما واجهاه من أهوال الحرب وتداعياتها. تاركَين بلداً كلما ركنت أشلاؤه مزقت من جديد.؛ بيد أن طريق هروبهما طلباً لبلاد آمنة كان محفوفاً بأهوال توازي أخطار الحرب ذاتها.

لماذا النحل؟

“حيثُ يكون النحل تكون الأزهار، وحيث تكون الأزهار تكون الحياة والأمل”[2]، هكذا اختارت الكاتبة مهنة النحّال لبطل روايتها، جاعلةً من النحل رمزاً للإنسانية والشعوب بقوتها وضعفها، مرونتها ومقاومتها، واقعها وأحلامها.. وهذا ما يظهر واضحاً في الصفحات العشرين الأولى للرواية، ثم تتابع الترميز إلى النحل طوال المئتين وثمانين صفحة المتبقية من الرواية مثل مقارنتها لنحلةٍ سوريةٍ بأخرى إنكليزية، وتوصيفها لنحلة بلا أجنحة عالقة في ساحة إسمنتية في فناء بريطاني بعد أن كان النحل في وصف سابق يطير بحريّةٍ مطلقة متنقلاً بين الأشجار والأزهار في المزارع الخضراء في فضاءات سوريا وتحت شمسها. اختيار الكاتبة لم يكن عبثيّاً؛ فلطالما تواترت الأنباء من الداخل السوري عن هجرة أسراب النحل من مدينة درعا جنوبي سوريا، من دون تفسير أو سبب علمي واضح، سوى أنه نذير شؤم، وأحد آثار الحرب صورة مجازية لكل من على تلك الأرض بشراً وهوام.

السردية القَلقَة

تأثّرت كريستي لَفتيري بنظريات الكتابة الإبداعية وقواعدها لكونها أستاذة في المجال ذاته، الأمر الذي أسبغ على روايتها ظلالاً من الجمود والتصنّع، وافتقر إلى عفوية السرد، من دون أن تخسر جاذبية الأدب العاطفية، وربما كانت هذه النقطة وراء حصد “نحّال حلب” جوائز أدبية عالمية عدّة، حيث تروى الأحداث بطريقة شديدة البرودة على لسان شخصيات ممّلة، مصابة بصدمة نفسية هائلة، تتحرك كالأموات الأحياء، كما هي حال اللاجئين والنازحين في سيرورات تغريبتهم. فوق ذلك، لا تلتزم الرواية بوقت زمني واضح أو ترتيب منطقي؛ مما أدى إلى الكثير من النهايات التائهة، وإلى الخلط بين أحداث القصة الحقيقة وتلك المتخَيَلَة بالرغم من أن التسلسل الزمني يمكن فصله في الحياة داخل سوريا، ثم الرحلة والوصول إلى إنكلترا؛ حيث تتداخل مع قصص وأحداث لآخرين متخيَلين، وبهذا تحتاج إلى الكثير من التركيز لربط الأحداث ببعضها.

وعلى الرغم من أن الرواية في تركيبتها خيال روائي جامح، إلا أنها تشكّل مصدر معلومات أساسي للقارئ حول أزمة اللجوء السورية، والحرب التي يمكن أن تبقى عالقة في أذهان من تقع عليهم لفترات طويلة دون أن يحصلوا على تصحيح أو إجابات للأسئلة الكثيرة المطروحة في الرواية من دون الإجابة عنها.

      توثق رواية “نحّال حلب” صورًا من مآسي رحلة شَتات الشعب السوري في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين، وعلى غرار رواية الأردني أيمن العتوم “يسمعون حسيسها”[3]، لم تزر الكاتبة كريستي لَفتيري ارضَ روايتها، وما وَطِأت أرض سوريا يوماً، لكنها قضت أوقاتاً مع لاجئين سوريين، بعضهم أكاديمي، تستمع لقصصهم في أثينا.

لاقت الرواية أصداء واسعة ونجحت في لفت أنظار الأوروبيين إلى جوانب من التغريبة السورية بطريقة لم تنجح بها وكالات الأنباء وتطبيقات السوشال ميديا؛ إذ إن تقديم قصة مأساوية بقالب رواية رومانسية قادمة من الشرق الغامض تناسب ذائقة القارئ الغربي، كيف لا؟ ولمدينة حلب تاريخ عريق، ولطالما ذُكرت في الأدب الإنكليزي؛ حيث ذكرها شكسبير في مسرحيتيه الخالدتين “ماكبث” و “عطيل”، وتبقى حلب على مرّ العصور مصدراً سحرياً للفن والأصالة والصوت الشجيّ وللقصص الغامضة أيضاً.  

تنقل الكاتبة تفاصيلاً مدهشة عن الحياة في حلب، بيد أن من يعرف المدينة وأهلها يدرك أن كريستي لَفتيري لم تزر حلب قط، ففي مطلع الرواية تروي مشاهد لأشجار اللوز وإطلالة القلعة على الصحراء، وصحيح أن المنطقة جافة لكنها ليست صحراء، كما أن أشجار اللوز لا تنمو في الصحاري أصلاً. ربما تأثرت الكاتبة بالصورة النمطية عن العرب، فكلمة عرب مرادفة للصحراء وتعني أيضاً لبس عباءة كزيّ رسمي للسيدات. الحلبيات يرتدين العباءة لكنها ليست الزي الأعم في المجتمع السوري، إضافة إلى أنه يستبعد أن ترتدي زوجة بطل القصة العباءة نظراً للطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، فهي رسامة، وهذه حرفة لا تمتهنها الطبقة غير المثقفة إجمالاً، حيث تميل هذه الطبقة في سوريا عادة لاعتماد الأزياء الأوروبية حتى مع الحجاب، كما أن تفاصيل أخرى من الرواية تذكر أشياء مثل “شوكولا نوتيلا”، ولعبة “الليغو” وهي أيضاَ تدل بشكل ما على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها أبطال القصة.  

تكسب الكاتبة جولة دبلوماسية لكونها تتعامل بموضوعية تامة مع الجناة والمجني عليهم، فلا تنحاز لأي طرف ضد الآخر، وتستخدم مصطلحات كانت شائعة في ذروة الحرب السورية ورحلة اللجوء كـ: “مخرّبين وشبيحة”, وهو بلا شك ذكاء تسويقي واجتماعي من الكاتبة, وربما كان لهذه الدبلوماسية المدروسة من قبلها الأثر الأكبر في انتشارها بشكل كبير، بينما لم تلاق روايات أخرى مثل روايات الكاتب السوري الألماني “رفيق شامي” The DarkSide of Love أو Sophia – The Beghinng of All Tales  ذات الرواج على الرغم من أنها تحكي أحداثًا مباشرة عن مآسي الحياة في الداخل السوري وتتحدث لغتهم.

تبدأ رواية كريستي لَفتيري بأحداث متسارعة ومتقاربة ثم يشعر القارئ ببطء مملّ في الأحداث، ولعلها ترغب بأن تصور كم هو صعب طول انتظار المجهول، وكم هي قاسية وثقيلة رحلة الهجرة من الوطن، واللجوء إلى وطن بديل، حيث ينزح المرء من ويلات الحرب مثقلاً بذكريات متباينة عن حياة خلت لا يعرف خلالها إن كان نفذ بجسده إلى أرضٍ آمنة، بينما روحه عالقةٌ في مكان ما اسمه “الوطن”. وعلى هذا النحو تنهي الكاتبة روايتها بنهاية غامضة، وعينا عفراء مطفأتان، لا يظهر في أفقهما ضوء واضح في نهاية نفق حياة لاجئ مستجد.


[1] CHRISTY LEFTERI, The Beekeeper of Aleppo, Novel Literary fiction, 2019 (378 pages).

[2] Ibid

[3]  أيمن العتوم. يسمعون حسيسها، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2013. (368 صفحة).