مقال جسور

هجرة الفلسطينين من لبنان: “خيار فردي” أم “مؤامرة منظمة”؟

هجرة الفلسطينين من  لبنان: “خيار فردي” أم “مؤامرة منظمة”؟
 تشهد المخيمات الفلسطينية في لبنان هجرة متصاعدة لشبابها وعائلاتها، وتعيش واقعاً إقتصادياً ومعيشياً يُثقل عليها بفعل الأزمة التي يجتازها الإقتصاد اللبناني والضوابط القانونية المفروضة، ويتفاقم الوضع تحت وطأة إنسداد الآفاق السياسية الدولية أمام أي حلٍ عادل لقضيتهم. بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية، تعتبر هذه “الهجرات” موضوعاً شديد الحساسيّة. فاللاجئون الفلسطينيون في لبنان يعانون من ضغط معيشي شديد. القيود عليهم كثيرة، ووكالة “الأونروا” تقلص خدماتها بسبب الأزمة المالية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المساعدات المتراجعة من قبل المنظمات غير الحكومية، أما المسؤولون فليست لديهم أي بدائل. ويتساءل الفلسطينيون عما إذا كان هناك مشروع سياسي وراء “رحلات المغادرة” هذه، التي تبدو سهلة وميسورة للغاية. فقد حذرت تقارير ودراسات ومقالات من أن عمليات التهجير المنظمة تشكل خطراً كبيراً يواجه اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بحيث يؤدي إلى خفض أعدادهم، وسط التخوّف من توطين من تبقى منهم، تحت ذرائع ودوافع إنسانية واجتماعية مختلفة، مما يعني إسقاط حق العودة. أمام إنسداد آفاق العيش الكريم، ومحاولات إنهاء قضيتهم من خلال ما يسمّى”خطة القرن” التي تطرحها الإدارة الأميركية وسط صمت عربي لافت، يتجه بعض اللاجئين الفلسطينيين إلى “اللجوء اليائس” إلى أوروبا أو أوستراليا أو كندا وحتى أفريقيا، وعبر أي طريقة أو طريق ممكنة، حيث يواجهون مخاطر مختلفة. فقد وصل بعضهم، وعاد البعض الآخر، فيما لا يزال فريق ثالث مجهول المصير أو مفقوداً.
 
بين 10 و13 ألفاً غادروا خلال 3 سنوات! تُبيّن بعض الأرقام المنقولة عن قياديين ومسؤولين فلسطينيين أنه تمّ تسجيل هجرة 4000 عائلة فلسطينية من لبنان إلى أوروبا في عامي 2017 – 2018، وهجرة نحو 1500 شخص خلال الأشهر الستة الماضية.وتفيد هذه الارقام أن ما يتجاوز الـ 13 ألف فلسطيني غادروا المخيمات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، منهم حوالى 4 آلاف فقط خلال الأشهر القليلة الماضية. ورصدت التقارير الصحافية مغادرة 500 شخص من مخيمات الشمال خلال ثلاثة أشهر، 300 من مخيم عين الحلوة، عدا عمّن هاجروا من مخيمات بيروت والجنوب والبقاع. ومن مخيم الرشيدية وحده هاجرت عائلات بلغ عدد أفرادها ما بين 100 إلى 150 شخصاً. أما المبلغ الذي يحصل عليه السمسار، فيتراوح بين 6000 إلى 8000 دولار أميركي عن الفرد الواحد(1).
 
بين أوروبا وأميركا الجنوبية بحسب مصادر فلسطينية، بدأت هجرة اللاجئين من لبنان منذ العام 2014 بشكل فردي “قانوني” وإلى المانيا بشكل أساسي، وشملت فئات الشباب المتعلّم الباحث عن فرص عمل لم ولن تتاح له في لبنان، وأحياناً – بغطاء عائلي وبحجة “لمّ شمل الأسرة”. لكن، منذ بداية العام 2017 باتت رحلات الهجرة تتم عبر خط جوي، في “ظاهرة” شائعة. بدأت أولاً في مخيمات صور والتجمّعات المحيطة بها، قبل أن تنتشر في المخيمات والتجمّعات المحاذية. ويؤكد فلسطينيّو هذه المخيمات أن هناك عدداً من “منظمي الرحلات السياحية” يقومون بترتيب عمليات المغادرة. لكن الإسم الأكثر شهرةً وتداولاً هو “الميسر” “ج. غ.” الذي يتم تبادل رقم هاتفه في أوساط المخيمات، والذي كان مكتبه يقع في منطقة ساقية الجنزير في بيروت ضمن مستودع قديم لبيع أدوات التنظيف في مدخل مبنى متواضع. وكانت الساحة الصغيرة أمامه تشهد صفوفاً من طالبي “السفر”، قبل أن ينتقل إلى شقة أرضية في المنطقة نفسها في مبنى أنيق مراقب بالكاميرات ومن قبل حارسين أمنيين، تحيط به مبانٍ فخمة. ووفقاً للعديد من شهادات طالبي الرحيل، يدّعي “غ.” أن المسار الذي يقترحه هو “مسار شرعي”،  بضمانة محام، مقدماً نفسه على أنه “فاعل خير” يعمل من أجل اللاجئين. ووفقاً  لمصادر فلسطينية، فإن الـ 1500 فلسطيني الذين غادروا خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام 2018، عن طريق المدعو “غ.”، دفعوا بين 8 و12 ألف دولار للفرد الواحد، بحسب العدد الذي يتقدم دفعة واحدة طلباً للسفر، ووفق تأشيرات ترانزيت “شرعية” عبر مطار بيروت، ووجهتهم دول أوروبية عدة: إسبانيا، إيطاليا، إلمانيا، بلجيكا أو السويد. كانت الطريق الأساسية لبلوغ أوروبا تبدأ من تركيا إلى اليونان – إسبانيا.
 
وهي التي اعتمدت منذ اندلاع الحرب في سوريا، وكان يسلكها سوريون ولبنانيون وفلسطينيون. وكان يمكن للطامحين إلى “منفى” جديد أن يصلوا إلى مطار مدريد “ترانزيت” من دون تأشيرة، وأن يختفي اثرهم بمجرد تقديم طلب اللجوء باتجاه ألمانيا وبلجيكا. ويدعي العديد من الفلسطينيين أنهم سافروا من لبنان وفي جيبهم رقم هاتف “ميسِّر عبور” للاتصال به حال وصولهم إلى إسبانيا. لكن هذه “الطريق” عبر إسبانيا أغلقت في تشرين الثاني 2018، وأعلنت الشرطة الإسبانية عن تفكيك “شبكة إجرامية يشتبه في تنظيمها عمليات قدوم مئات الفلسطينيين إلى أوروبا من خلال طلبات لجوء تنطوي على احتيال”. وجرى توقيف خمسة أشخاص في إسبانيا وأربعة في فرنسا. وقدّرت الشرطة أن هذه الشبكة استقدمت جواً منذ  كانون الثاني 2018 نحو 1200 فلسطيني كانوا يعيشون في دول الشرق الأوسط عبر بوليفيا وصولاً إلى مدريد. في أعقاب تعذّر الحصول على تأشيرة العبور الاسبانية، تمّ تناقل رسالة صوتية منسوبة إلى “ج. غ.” نفسه عبر الهاتف في المخيمات الفلسطينية، يطلب فيها من الذين سجّلوا أسماءهم للمغادرة، مراجعته لاسترداد أموالهم أو الإنتظار… إلى أن يفتح باب هجرة جديد. وبعد توقف لأشهر، عاد “غ.” للعمل بتسهيلات جديدة، فبدلاً من 10 آلاف دولار للشخص الواحد صار المطلوب نصف المبلغ والسفر بعد يومين من الدفع، لكن الرحلة صارت أطول وأبعد.
 
وباتت محطات التوقف هي الإكوادور وفنزويلا، وهما دولتان لا تتطلبان تأشيرة دخول للاجئين الفلسطينيين. وبحسب مصدر فلسطيني، يؤمّن الوسيط اللبناني للاجئ تأشيرة إلى البرازيل، على أن ينتقل منها إلى بوليفيا أو إحدى دول أميركا اللاتينية قبل العودة إلى إسبانيا عن طريق “الترانزيت”، حيث يُقدِم على تمزيق مستنداته الرسمية وتقديم طلب لجوء. هناك من عاد ..وهناك من ينتظر لبّى أحمد (28عاماً) احدى الدعوات التي وجهت خلال العام 2018 إلى أهل المخيمات في لبنان، وإلى سكان مخيمي نهر البارد والبدّاوي شمالاً، ومخيم عين الحلوة جنوباً بشكل خاص، للتظاهر والمطالبة بالهجرة عبر مجموعات “الواتساب”، ثم من خلال بعض صفحات موقع “فايسبوك”. شارك في تظاهرة في مخيم نهر البارد رفع فيها لافتة تقول “اﻟﻬﺠرة ﺣﻖ”، تلتها تظاهرات مماثلة وإن ضعيفة المشاركة في مخيمات أخرى، ارتفعت على جدران أزقتها اعلانات لمنازل معروضة “للبيع بهدف السفر”. لكن أحمد – الذي لم يكن يريد سوى “الخروج من لبنان”- عاد إليه مديوناً فاقداً لمنزله وعمله. ساري (إسم مستعار) -35 عاماً- من مخيم عين الحلوة، غادر إلى المانيا عبر السمسار “غ.”، عن طريق أميركا الجنوبية. لا يتذكر أن هناك أي صعوبة واجهته في مطار بيروت من الأمن العام. فبالإضافة إلى وثيقة سفره التي طلبها وحصل عليها خصيصاً لكي يغادر، حصل ساري أيضاً -كما قال- على “تأشيرة لاثيوبيا (المحطة الأولى دامت حوالى عشرين يوماً) لكن على ورقة منفصلة. ولا شيء آخر غير ذلك لدخول بوليفيا أو البرازيل… التي عاد منها متعهداً لعائلته بعدم تكرار التجربة. هادي – من عين الحلوة – أبى إلاّ أن يهاجر عبر وسيلة آمنة. “دلّني اصدقاء على مهرّب في بيروت. لم يُجب عن أي استفسار”. يقول هادي: “كل ما أفادنا به هو البلدان والمطارات التي سنمر فيها: من مطار بيروت عبر إحدى الخطوط الجوية إلى افريقيا، ثم إلى البرازيل فالأوروغواي حيث سنمكث وعائلتي أياماً عدة، على أن تكون المحطات السابقة “ترانزيت” ومن الأوروغواي مرة أخرى إلى البرازيل فإسبانيا حيث سنطلب اللجوء في المطار مباشرة. ممنوع السؤال عن أي شيء: موعد الرحلة أو إسم الخطوط الجوية أو مكان المبيت في الأوروغواي. قال لي المهرّب إن كل هذه التفاصيل ستكون معي قبل السفر. وفقاً لهادي، كل التأشيرات المطلوبة له ولعائلته شرعية، حسب تأكيد المهرّب الذي طلب منه انتظار اتصال يبلغه بموعد الرحيل. “يبدو أن لدى هذا المهرّب الكثير من الزبائن”- يقول هادي: “لقد استرقت النظر إلى دفتر يومياته، فوجدته مليئاً بالأسماء والأرقام. كل هؤلاء هم مهاجرون محتملون”. دفع هادي 32 ألف دولار، ثمانية آلاف عن كل فرد من العائلة. باع منزله مع الاثاث بمبلغ بالكاد يعادل نصف ثمنه الحقيقي… وهو لا يزال ينتظر.
 
القصة أكبر من مجرّد تجارة يقول زياد السيّد، من مخيم عين الحلوة، الذي كان يعمل حلاقاً إن “ما يدفع الفلسطيني إلى الهجرة أولاً ضيق أسباب المعيشة، وعدم حصوله على حقوقه المدنية، فضلاً عن مهن كثيرة ما زال يمنع من ممارستها والعمل بها”. سمع من أحد معارفه عن مكتب يقوم بتأمين تأشيرات دخول إلى إسبانيا ودول أوروبية أخرى، بكلفة لا تقل عن 10 آلاف دولار.  ويضيف: “منذ لحظة وزن الأغراض التي تحملها معك وحتى وصولك إلى اسبانيا وأنت مغطى أمنياً و”ماشيين معك واحدة بواحدة”. المهم أن تخرج من هذا البلد (لبنان). لكن بمجرد أن تصل إلى إسبانيا حتى تبدأ معاملة من نوع آخر. نمنا 8 ساعات على مقعد خشبي وانتظرنا حتى يأتي الصليب الأحمر الدولي  ويأخذنا. الرحلة إستغرقت ثمانية أشهر، بالإضافة إلى 20 يوماً قضيناها على الطريق. التجربة كشفت لزياد ولكثيرين غيره- ممن عادوا من “هجرة ضياع وتشتت”- أكثر من حقيقة، أولاً أن “من يدير موضوع تسفير الفلسطينيين، ليس مجرّد مكتب وسمسار وإنما هناك جهة تقف وراء ذلك، والقصة أكبر من كونها تجارة. قد تكون هناك جهات تريد أن تخفف من أعداد الفلسطينيين في لبنان”.