مقال جسور

هنا نحن نسند حيطاننا

هنا نحن نسند حيطاننا

فاطمة غزاوي*

تتكرر الايام وتعيد نفسها في بيتنا الصغير الذي تتعانق فيه الغرف، ويتكىء فيه حائط على الآخر حين يحل به التعب. ويتصبب عرقاً في ايام الشتاء القارصة بسسب “النش”. تتسرب المياه من السطح لتخترق السقوف، ويتغير لونها، ويتقشر دهانها. هنا في شاتيلا، نتبادل الادوار. نحن نسند حيطاننا وليس العكس.

 افرد الغسيل على الحبل الممدود على الشرفة الصغيرة التي تطل على شارع طويل وضيق. الشارع نفسه الذي كنت العب فيه في طفولتي. انبطح على الارض حاملة الحجارة بيدي الصغيرين، ارميها على سبع قطع مسطحة من الحجارة منظمة فوق بعضها البعض، محاولة ان اصيب اكبر عدد منها كي اربح والتف حول نفسي راقصة فرحا. أما الآن فهذه الطفلة لم تعد تستمتع بالنظر الى الشارع. ما أراه اهو طفل حافي القدمين يحاول ان يتفادى في كل خطوه كل ما يمكن ان يؤذي قدميه الجريئتين. يبدو اصلاً وكأنه روح عجوز حكيمة، وقد اجبر على أن يكبر بسرعة. أسمع عجوزاً يتسول يطلب المساعدة بصوت خجول مرتجف.

في داخلي ثورة غضب. في هذا البلد، تجعلني جنسيتي اشعر دائماً اني منبوذة او مذنبة. في واقعنا نتعلم منذ الصغر أن نكون طموحين، وأن ندرس وندخل الجامعة ونلاحق احلامنا بمهنة جيدة. لكننا بعد التخرج، نكتشف أننا لن نعمل الا في مهنة تلائم جنسيتنا. تلاحقني كلمات امي عندما اعلق خيباتي على شوارعنا ومخيمنا:”اجعلي من هذا الخراب لوحة فنية واستمتعي بها. فبعد الخراب عمار، وبعد اللجوء وطن، وبعد المخيم مدينة تسمى حيفا”.

انتشرت آفة المخدرات في السنوات الاخيرة على نحو خطير في المخيم. ترى الان اطفالاً وشباباً يتعاطون الممنوعات في الشارع وبجرأة، يقودهم اليأس والقنوط حين لا يجدون طريقا للخروج من ذلك كله. هم ولدوا يحملون عبء القضية الفلسطينية في بلد يرفض قبولهم مواطنين، ويبقيهم لاجئين منبوذين، ولذلك فهم يكبرون معذبين. وعندما يكملون تعليمهم بلا أمل في أن يحصلوا على عمل بطريقة مشروعة، يجدون انفسهم على الطريق المظلم الغامض، حيث الادمان ملاذهم الوحيد.

حين أجلس وآدم على سطح المركز الثقافي… مطلين على المخيم الاحظ مدى بؤس المكان. معظم البيوت بقيت على حالها منذ ان بنيت اول مرة وواجهاتها تالفة، لكن على الاقل السماء فوقها واسعة. البنايات تصطف كما تصطف قوافل الجيش. وترتفع كل يوم نتيجة لاسكان الوافدين الجدد. الملحقات التي تبنى عليها تجعلها تبدو مثل أيادٍ ترتفع طالبة النجدة من الله، كما يرفع غريق في بحر كبير يديه طالباً النجدة.

أحب المخيم وأكرهه، أصله وأشتاق إليه، أرفضه وأقبله. وعلى الرغم من عجز البيوت والشوارع والارصفة، هناك أشياء تصب برداً على نار الوجع. يمتلىء قلبي دفئاً حين أرى واحداً منا يلتقط ببراءة كسرة خبز عن الارض، وكيف يقبل هذه النعمة، ويضعها على جانب الطريق حتى لا يدوسها أحد، أو ابتسامة طفلةٍ عائدةٍ من المدرسة، أو الأعلام التي ترفرف وتزين كل شبر من المخيم. وعلى الرغم من الخلافات العديدة الموجودة بين ساكني المخيم، فإننا موحدون في حبنا لفلسطين.

وفي كل مرة أتأمل المخيم اكتشف أشياء جديدة. هو يبدو مختلفاً بحسب الموقع الذي تنظر منه اليه. المخيم كنز من الاسرار.

احب المطر كثيراً وفي المخيم اكثر، لانك اذا لم تكن ابن هذا المكان لن تعيش اللحظات التي يطرق بها المطر على غطاء حديدي لاي دكان او محل فقير، فتخرج اصوات التكتكات “تك… تك..” بهدوء، وفي منتصف الليل وانت تضع رأسك على الوسادة فتشعر بأن أماً تطبطب لك لتنام بسلام.

* مقتطفات من قصة  من كتاب “حكايات شاتيلا” الذي صدر بالانكليزية عن دار نشر Peirene Press عام 2018 بعد ورشة عمل للكتابة لمدة ثلاثة أيام اجرتها الناشرة مايكي زيرفوغل في المخيم بالتعاون مع منظمة بسمة وزيتونة.