مقال جسور

وجــوهٌ متغيّـرة لأزمــةٍ دائمـة.. “الأونــروا” في مـرمى الخصخصة!؟

وجــوهٌ متغيّـرة لأزمــةٍ دائمـة.. “الأونــروا” في مـرمى الخصخصة!؟

أحمد الـزعـبي

باحث وأستاذ جامعي

خلطت الحرب الروسية – الأوكرانية الأولويات الدولية. شغلت العالم وفَرَضَت رُعباً سياسياً ومالياً واقتصادياً وغذائياً، وليس تأزّماً جيو-استراتيجياً ينذرُ بحرب عالمية ثالثة فحسب. وقد أعادت هذه الحرب، من خلال تداعياتها، وخصوصاً في الشق المتعلق بالنازحين الأوكران وما رافقه من مشاعر وتعليقات واستحضارات غربية، بحثَ مفاهيم الحق الإنساني والتفوّق العرقي، زئبقيّة الدلالة، وحرّكت كل المخاوف والهواجس والأساطير التاريخية المرتبط بخطاب زمن الإنقسام العالمي الكبير. ربما من دون قصد!

لم تكن هذه الحرب بداية هذه التساؤلات في العصر الحديث. قبلها، كشفت جائحة كورونا عدم المساواة الدولية في توزيع اللقاحات بين الدول، وقبلهم جميعاً، منذ أكثر من سبعة عقود ثمّة التباسٌ وتباينٌ حول وعن وفي حقوق الفلسطينيين. هكذا يبدو العالم في أزمنة الذكاء الاصطناعي و”ميتا” و”تسلا” والسوشيل ميديا وجدري القرود وكوفيد 19. ومن دون إحياء نظريات المؤامرة ومنطق الإمبرياليات ثمة عالمٌ يتغيّر بسرعة، وهو، بموضوعية ومن دون تحيّز، عالمٌ من اللامساواة. في هذا العالم، تحملُ الأزماتُ الإنسانية، ومعها مفاهيم الحق الإنساني والعدالة وأشكال التأثير والعلاقات بين الدول، وجوهاً متعدّدة، وقيماً مختلفة، ومقاييس متباينة، وفيه أيضاً لا أحد ينتظر حلولاً سحرية، أو عطاء غير منقطع.. هنا لكل شيءٍ ثمنٌ ومقابل.

الأونروا وتحدّي الاستدامة

منذ إنشائها في العام 1949 أثارت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وعلى مدى 74 عاماً، أسئلة وإشكاليات وهواجس، وواجهت أيضاً تحديات وعوائق لعلّ أبرزها تأمين التمويل المستدام والشفافية والنزاهة والابتعاد عن الأجندات السياسية، لكنها كانت على الدوام التزاماً دولياً، وضرورة وحاجة لشعب سُلبَ الأرضَ والحقّ والأمل.

  في كانون الثاني (يناير) 2018 ثارَ جدلٌ كبير حول قرار الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ترامب تقليص مساهمة واشنطن في ميزانية الأونروا، من 364 مليون دولار إلى 60 مليوناً فقط ما لم تنفّذ الوكالة “إصلاحات محدّدة”، ولاحقاً ألغت إدارته التمويل تماماً (آب / أغسطس 2018). حينها انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض، حتى إن بعض المعلقين الاسرائيليين انتقدو القرار وتداعياته الإنسانية والأمنية على الفلسطينيين والشرق الاوسط، واعتبره البعض “شكلاً من أشكال العقاب الجماعي ضدّ الشعب الفلسطيني”، فيما وضعه آخرون في إطار استراتيجية واشنطن لإجبار اللاجئين الفلسطينيين على قبول صفقة القرن وإلغاء حق العودة المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194 [1].

  اليوم، ومع تراجع خدمات الوكالة الدوليّة المعنيّة بالنظر في أمور أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في مناطق عمليات الأونروا الخمس: لبنان والأردن وسوريا وغزة والضفة الغربي، بسبب العجز المالي المتراكم، عادت الهواجس والأسئلة لتطلّ مع ما أثارته رسالة المفوّض العام فيليب لازاريني إلى اللاجئين بتاريخ 23 نيسان (أبريل) 2022، خصوصاً في ما يتعلق باقتراحه إحالة خدمات تقدمها الوكالة إلى منظمات أمميّة أخرى بالإنابة عن الأونروا، وهو أمرٌ، إن تحقق، يرى فيه بعض الفلسطينيون مدخلاً لتحسين نوعية الخدمات التي يتلقونها في الاستشفاء والتعليم عبر وكالات أممية أخرى، ربما، لكن يرون فيه أيضاً مدخلاً للتوطين وطي صفحة حق العودة، فـ الأونروا لطالما مثّلت في نظرهم ما هو أبعد من الشأن الإنساني والإغاثي، بل تعبيراً عن المسؤولية السياسية الدولية تجاه قضية الشعب الفلسطيني بموجب القرار 194، ولا يمكن تحويل هذا الاهتمام إلى الشق الإنساني حصراً. هو أمر يرفضه الفلسطينيون بحسب هذه المقاربة التي تحتمل النقاش والتطوير.  

  هل المطلوب تعديل مهام الأونروا أو تطويرها أو إصلاح آليات عملها، وكيف يمكن دعمها لتأمين استمرارية تقديماتها، خصوصاً في ظل غياب الحلول السياسية، وضبابيّة المشهد الإقليمي، وانشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، وتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على اللاجئين ومجتمعات الاستضافة، وقبل كل ذلك بقاء الصراع داخل فلسطين المحتلة مفتوحاً على الاحتمالات كافة؟

  إذن، مع انشغال العالم بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، جاءت رسالة لازاريني التي نُشرت عشية اجتماعات اللجنة الاستشارية للأونروا (ADCOM)، التي تعقد في بيروت خلال شهر حزيران (يونيو) لبحث خطط الوكالة وقضايا اللاجئين، كما حضرت وستحضر قضية اللاجئين في اجتماعات دولية رفيعة المستوى، كمؤتمر بروكسل لدعم مستقبل سوريا الذي نظمه الاتحاد الأوروبي يومي 9 و10 أيار (مايو) 2022، بمشاركة الأمم المحدة، لحشد الدعم المالي لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة، ومؤتمر التعهدات السنوي بشأن الأونروا الذي سينظّم في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال حزيران (يونيو) أيضاً في نيويورك، كذلك من المقرر أن تصوّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، على قرار تجديد ولاية (الأونروا) الذي ينتهي في 30/6/2023، نهاية العام الجاري لثلاث سنوات أخرى.

“جسور” لبنانية لينة

يدرك لبنان الذي يرأس اللجنة الاستشارية للأونروا حالياً ممثلاً بلجنة الحوار اللبناني الفلسطيني في رئاسة مجلس الوزراء، أهمية الاجتماع، ورمزيته وسقف التوقعات منه، من دون مبالغة أو ادّعاء، وهو يجهد لضمان إنجاح الاجتماع بالحدود المتاحة، أي بالنسبة إلى الأطراف المشاركة فيه والمعنية بهذا الملف (المانحون والدول المضيفة والوكالة الدولية والفلسطينيون)، ومن المتوقع أن يطرح رؤية استراتيجية ذات أبعاد مختلفة تساعد في بناء رؤية موحّدة لمستقبل الأونروا عشية بحث تمويلها ومن ثمّ تجديد التفويض لها نهاية العام الجاري. في وعي اللجنة ضرورة الالتفات إلى مقاربة الأمم المتحدة ووكالاتها، ومن ضمنها الأونروا، للواقع القائم وتحدياته وآليات الإصلاح والاستدامة المطلوبة، وهي ليست بالضرورة رؤية متآمرة على قضية اللاجئين، وإن لم تكن تلبي طموحاتهم، بالتوازي مع تأمين موقف فلسطيني موحّد ومنفتح على النقاش بفاعليّة لكل ما يهمّ مجتمعات اللجوء، وأخيراً الانتباه إلى التحديات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الدول المضيفة، وخصوصاً لبنان الذي يواجه أزمات سياسيّة غير متناهية وانهياراً مالياً غير مسبوق.. كل ذلك يفترض التعاطي مع ملف الأونروا بما يستحقه من موضوعية بعيداً عن الاستسهال أو الحسابات الضيقة. الأونروا لم تنشأ أصلاً لغايات سياسية حتى يتم بحث مصائرها من منطلقات سياسية، بل الأولوية هي للإبقاء على الاهتمام الدولي، المنشغل بقضايا وأزمات عديدة، بالقضية الفلسطينية بوجوهها كافة. وبهذا المعنى إن بحث استمرار الدعم أو تأطيره بأشكال مستدامة وشفافة وفعّالة هو المهم، أما “شرعية” القضية الفلسطينية وأحقيتها فتتأسّس على الحق والتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل.

استضافت بيروت اجتماعات اللجنة الاستشارية لـ الأونروا وناقشت استراتيجيات تتصل بعمل الوكالة (الصورة لـ LPDC)

 أمام كل ذلك، تسعى لجنة الحوار إلى اعتماد ديبلوماسية صناعة الجسور لانتزاع ما يمكن سياسياً وأمنياً ومالياً وإداريا وإنسانياً على قاعدة أن تحقيق الاستقرار في دول الاستضافة، ولبنان تحديداً، يفيد اللاجئين في رحلة الصمود ويفيد المجتمعات المضيفة، ومن قبلهم جميعاً الدول المانحة والمؤسساات الدولية والسلام والاستقرار الإقليمي والدولي، وفي الوقت عينه يضعالاونروا”، بالشراكة مع وكالات الأمم المتحدة الأخرى، أمام تحديات التكامل والشفافية والاستدامة وتمتين المجتمعات المضيفة، وتطوير مفهوم العمل الانساني والإغاثي وآلياته وشراكاته… فالعالم تغيّر.. تغيّر كثيراً.

بين السيادة ورأس المال

 أيضاً، هل الاهتمام الدولي بالقضايا الإغاثية الممتدة، كاللجوء، يكون مدفوعاً عادة بـ “أخلاقيات الرعاية” للمبادئ الإنسانية والأخلاق والحقوق لحماية من يستحقون الحماية والتقديمات الإغاثية، أم السعي لتأمين سلام واستقرار ليبرالي قائم على أسس ديموقراطية واقتصاد حرّ، أم لحسايات أخرى، ليست بالضرورة ذات طابع سياسي أو كولونيالي؟

نحن أمامَ مسألةٍ معقدة، لا تتم مقاربتها وفقاً لمنطق الحق المجرّد والمتعالي. هنا تحضر الحسابات الدولية التي لا تتسم عادةً بالاستمرار والجمود والمثاليّة، وهي فوق ذلك قابلةٌ للتحوّل والتغيّر في أي لحظة. وأمامَ عالمٍ متغيّر، متفاوت الاحترام لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأمام تبدّل موازين القوى الإقليمية والتحالفات الدولية وغياب ضوابط تَحول دون الانزلاق نحو انفجار كبير، ومع الأزمات العالمية الناشئة عن الأوبئة والكساد والانهيارات المالية، وأخيراً الحرب الروسية الأوكرانية المفتوحة على احتمالات شتى؛ نحن أمام مفهوم ملتبس للسيادة معطوفاً على جدلية العلاقة بين رأس المال (ممثلاً هنا بالجهات المانحة) ومنظومة لينة قائمة على مفاهيم متداخلة للحق والعدالة، انبنت عليه إشكالية تتصل بتطوير مفاهيم المواجهة أو الصمود أو الإفادة مما أنتجه عالم اليوم من فرص وإمكانات لا تخضع للمنظومة القانونية والإدارية والبيروقراطية التقليدية، ولا حتى لمنظومة السيادات الوطنية والحدود الجغرافية… ومن ثمّ تطويع كل ذلك في خدمة القضايا المركزية والعدالة والمصير. ذلك أنه من الصعب، بل المتناقض، تخيّل اجتماع أو تلاقي السيادة بمفهومها الهوبزي المجرّد مع رأس المال… ثمة إشكالية قديمة – جديدة حول جموح الرأسمالية للتحكم بمفهوم السيادة، أو بمعنى أدق إدارة التحكّم بالمجتمع العالمي، والمجتمعات المحلية أو الهشّة أو المأزومة سياسياً واقتصادياً وهوياتياً، بينما السيادة الحديثة تعتمد أساساً على تسامي صاحب السيادة (الحاكم) سواء أكان عاهلاً أو دولة وطنية، أم أمّة أم حتى شعباً، على الساحة الاجتماعية.

تؤدي السيادة الحديثة وظيفتها عبر إيجاد الحدود الثابتة والحفاظ على هذه الحدود، أما رأس المال فيعمل، بالمقابل، على مستوى التسامي عبر محطات تقوية وشبكات محكمة لعلاقات السيطرة والتحكّم، دون الاعتماد على أي مركز متسامٍ للسلطة. باختصار، إن تسامي السيادة الحديثة يتضارب، إذن، مع كمون رأس المال. وهي إشكالية تستحق التأمل للولوج إلى أشكال جديدة من المقاومة والمواجهة والصمود والسعي لنيل الحقوق. 

الحق الإنساني في عالم اللامساواة

بالتأسيس على كل ذلك، إن مجتمعات اللجوء التي أوجدت إمكانات هائلة من مقومات الصمود والتعايش والسعي لإثبات الذات والحق والتأثير والمصير (الفلسطينيون تحديداً)، ومثل كل أجيال ما بعد التسعينيات؛ تواجه تحدي إدخال عنصر جديد في مقاربة قضايا الحل، أيّ حل، وهو؛ بماذا يفكّر، وماذا ينتظر جيل مجتمع الشبكات والذكاء الاصطناعي من الشباب الذي خَبَرَ خدمات العالم المفتوح، وممارسة الحرية والتعددية والفاعلية التي يتيحها الفضاء الافتراضي العابر للحدود الوطنية والأطر القوميات والقوانين المحليّة؟

هذا الكلام بشقيه فيه وله محاذير كثيرة، وربما مبرّرة، إذ يتوجب علينا أن نكون حذرين تجاه التعامل مع قضية بحجم القضية الفلسطينية وطبيعة الصراع واحتمالاته، ومن ثم اتجاه المغالاة في الحديث عن الآثار الاجتماعية والهوياتية والاقتصادية لفضاء الشبكات، عندما يتعلق الأمر بمجتمعات لم تشارك في مغامرة الحداثة وصناعة الزمن الحديث إلا من موقع الاستهلاك غالباً، غير أن ذلك لم يمنع من وقوع الأزمنة الحديثة عليها، وهو ما ينطبق على المجتمعات العربية فيما تجهد إسرائيل في المقابل في توظيفه لمصلحتها في معركة التأثير الاقتصادي والمعلوماتي والرقمي. ومن دون القفز إلى الاستنتاجات، ما يطرح هنا مجرّد أفكار للنقاش، ومقترحات للتحليل، تأخذ في الاعتبار معطيات ومستجدات تَسمُ عالم اليوم، والهدف الرئيس هو الإسهام في دينامية التفكير حول قضايا ملحّة وضرورية ومؤثرة، ليس في الاستقرار والسلام الإقليمي والدولي فحسب، بل أبعد من ذلك بكثير.

عندما عقد اجتماع اللجنة الاستشارية في بيروت (14 حزيران –يونيو 2022) كانت الأونروا تتمّ عامها الـ 74، وهذا يفرض على كل الخبراء والمعنيين والاستراتيجيين المجتمعين إثارة 74 سؤالاً مركزياً، بالحدّ الأدنى، يستشرف مستقبلها في كل تفاصيله، محلياً، إقليمياً ودولياً وعلى كل المستويات والاحتمالات. ما الثمن الذي يجب على الشعوب دفعه لنيل حريتها وحقوقها كاملة؟ وكيف سيكون شكل عالم ما بعد حروب وجوائح القرن الحادي والعشرين، وما بعد ثورة الاتصالات، وما بعد بعد الحداثة؟

سعياً لعالم أفضل، أكثر توازناً، وعدالة، ومساواة، ومن دون شعوب فقدت أوطانها.. علينا أن نستمر في السؤال، والتفكير والمشاركة واجتراح البدائل، والإلحاح في ذلك.


[1]  Elena Fiddian – Qasmiyeh, The Changing Faces of UNRWA, the Global to the Local, In; Journal of Humanitarian Affairs, Online publication date: 01 jan 2019,

DOI: https://doi.org/10.7227/JHA.004