صحافية وناشطة فلسطينية
مسلّمات عدّة تسكن في ذهن الجار الغريب الذي تفصلنا عنه أمتار بسبب الجدار المفروض، والذي يمكن أن يكون مرئياً وغير مرئي في آن واحد. ذلك الجار الذي لا يعرف عن المخيم سوى تلك المساحة الضيقة التي تعطيها وسائل الاعلام للاجئ الفلسطيني، وطبعاً هذه المساحة غير موجودة، فقط “تُخلق” عند حدوث مصيبة من المصائب.
جارنا لم يزر المخيم يوماً، خوفاً منه، كالشبح الذي لا تراه لكن تهابه. ذهنياً، هو مجموعة تصوّرات هي عبارة عن افلام رعب تشبه الشبح الذي يظهر كمصّاص دماء. هذا الشبح الذي رُسمَ في المخيلة هو مجرّد سيناريو مستوحى من الواقع، مستنداً إلى التاريخ، وإلى أحداث آنية وجارية “طبيعية” تحصل في أي مكان وزمان، فنحن لا نعيش في الجنة.
لكن المشكلة تكمن في أن السيناريو غير متوازٍ ونهايته غير مرضية، يقوم على التراجيديا السوداء ويعتمد الجانب المظلم، ويعتّم على الجانب المضيء الذي لا ينتبه إليه كثيرون.
للمهتمين …
سأروي قصة حسن وهو جزء من الظل الذي يشكل الشبح، لعلنا نبني جسوراً فوق الجدار .
حسن الأسمر (28 عاماً)، هو الشخصية الأكثر شعبية نسبياً بين الشباب الفلسطيني في مخيم شاتيلا، الذي يقع في صميم العاصمة اللبنانية “بيروت المحروسة”. حسن الأسمر هو لقب اختاره لنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي، وتماشى مع كثير من ألقاب نسبت إليه ولن يلغي الواحد الآخر.
حسن “إبن جومانة”، هكذا يدل عليه كثيرون، وخصوصاً الأشخاص الأكبر سناً، ينسبونه إلى أمه صاحبة الشخصية الصلبة القوية. فمنذ صغره لم يكن أحد يجرؤ على الإقتراب من بكرها حتى عند ارتكابه خطأ ما، خوفاً من أن تنهره، فهي لبوة شرسة تكشف عن أنيابها عند الحاجة.
حسن من قضاء عكا، وهو من عرب فلسطين، أي “بدوي”، لذلك يعرف بـ”الغوراني” لأسباب عديدة، منها أن أهل الغور يشتهرون بالبشرة السمراء والشعر الأجعد الذي يغطي فروة رأسه .
ليس لدى حسن مشكلة مع أيّ من ألقابه. كنيته الحقيقية “طلال”. وعندما يُسأل عن إسمه الحقيقي يقول “حسن، نادوني حسن وبس، بحب إسمي، بيشبهني، بيقولو إسم على مسمّى وأنا منيح مش عاطل”.
حسن مواهبه عديدة مثل ألقابه، يمتلك صوتاً جميلاً يطرب به شباب الحيّ كل مساء، بالإضافة إلى جاره “أبو وسيم” ذي الشوارب البيضاء الكثيفة المفتولة مثل رأس السيف. يُعرف حسن بموهبة التمثيل أيضاً، إذ أنه شارك في أكثر من عمل تلفزيوني بدور شاب فلسطيني. أهمها مشاركته في مسلسل “غداً نلتقي” مع نجوم من الدرجة الأولى في الدراما السورية، إضافة إلى مشاركته الجريئة جداً في مسرحية “طرحا بيضا” في دور أحد المغتصبين. عرضت المسرحية بالتعاون مع منظمة “أبعاد” بهدف إلغاء المادة ٥٢٢ من القانون اللبناني ومحاكمة المغتصب، وحضرها معظم شباب المخيم تشجيعاً له.
يعشق حسن الدبكة الفلسطينية ويُجيدها، ويفضلها على مواهبه الأخرى. إلتحق بفرقة البيادر قبل ١٥ عاماً وطوَّر نفسه وأصبح الآن يعزف على آلة “الكربة”، التي تدخل في الفولكلور الفلسطيني. إلتزم بالفرقة وأصبحت أولوية في حياته، مع العلم أنها لا تؤمّن له أي مردود مادي، ما سبّب له بعض المصاعب.
حسن لا يستسلم رغم إنعدام فرص العمل، ولا يقبل أن يكون عالة على أحد. يشتغل في أي عمل يصادفه. لا يخجل ولا يستسلم للفراش أو اليأس أو المخدرات. ينهض قبل طلوع الشمس ويخرج ليبيع الكعك عند مدخل المخيم، ويعمل أحياناً في خدمة التوصيل للمنازل لمصلحة شركة إلكترونية.
يعدّ حسن أخاً أكبر وليس مجرّد صديق، فالجميع يلجأون إليه عند أي مشكلة مستعصية. بعد أن أمضى طفولته ومراهقته وشبابه في المخيم إستحق رتبة “قائد حيّ الصدمة” وبجدارة، فهو اليوم قائد لحيّ يضم نحو ٥٠ شاباً. حيّ الصدمة لم يستطع أحد فك لغز اسمه، حتى حسن نفسه لا يعرف كيف تمّت التسمية، لكن إذا دخلت الحيّ، حتماً ستُصدم…
“برستيج حيّ الصدمة” ملقب بـ “أبو دوما”، وهو الشاب الأكثر تأثراً بالأزياء والموضة العصرية. حلم بالهجرة بعد أن ضاقت فرص عمله. ودَّع الحيّ والأصدقاء، وأمّن الله على روحه وركب زورقاً متوجهاً نحو حلمه. وصل إلى قبرص بسلام، وما هي إلا أشهر معدودة، حتى عاد أدراجه يقول “سمكة وطلعتيها من المي” فعادت إلى الماء. فور عودته إفتتح محلاً صغيراً كجزء من “مطلع درج”. مساحته تكفي لوقوف شخص واحد، ووضع فيه آله كهربائية “اكسبرس” لصنع الشاي والقهوة. فوق باب المحل وضع لافتة صغيرة كتب عليها “مصيرك تكبري وتصيري ستار باكس”، إلا أنها لم تكبر وكان مصيرها الإقفال.
“أبطال حيّ الصدمة” كثر، يتبدلون مع تبدل المهمة، لكن في كل شأن ستجد حتماً بطلاً. فلعبة “البيبي فوت” على سبيل المثال، لديها بطل وهو مصطفى المصري الذي يفتخر بنفسه وكذلك شباب الحيّ، ويدعو دائماً شبان أحياء أخرى من المخيم للمبارزة. يتميّز شباب حيّ الصدمة بحب المنافسة، وخصوصاً في لعبة كرة القدم، لذا أنشأوا فريقاً متميّزاً يضمّ لاعبين موهوبين مثال أبو مجاهد وربيع عبد اللطيف وغيرهما. يتنافس الفريق مع فرق من أحياء المخيّم أو من خارجه، علماً أنّ لديهم جمهوراً كبيراً يأتي خصيصاً لمشاهدة مبارياتهم حاملاً معه الأراكيل وكل أنواع المكسّرات. وبعد أن يجمع حسن ألفي ليرة من كل لاعب لدفع إيجار الملعب، يدخل اللاعبون أرض الملعب فيما يمسك كل واحد منهم يد ولد من أولاد الحيّ تشبّهاً باللاعبين العالميين. بعد النشيد الوطني لحيّ الصدمة الذي ينشده حسن بصوته الجميل والجميع يرددون خلفه بصوت واحد: “أنا شب آدمي وقبضاي ضاي ضاي… ولما بنزل عالتمرين رين رين… نموت وتحيا فلسطين طين طين… وبإذن الله راجعين بس إنتو قولو آمين آمين”، تبدأ المباراة. للحظة تشعر أنك تشاهد أهم مباريات المونديال..
يحب شباب الحيّ بعضهم بعضاً ويجعلونك تفكر أنهم من أب وأم واحدة، إذ إنهم يتشاركون كل شيء: أوقاتهم، ملابسهم، طعامهم، علبة السجائر وحتى الأركيلة.
في أحد الأيام طلب حسن صورة شمسية من كل شاب في الحيّ وحتى المغتربين منهم. جمع الصور ووضعها داخل طاولة “بيبي فوت” قديمة، وعلّق الطاولة على حائط وسط الحيّ فبدت كإطار خشبي كبير كتب في أسفله “الله يجمع غسيلنا بغسالة وحدة. لا يمكن أن تمر من الشارع وتتجاهل اللوحة أو الشعور الذي يراودك لدى رؤيتها.
يتمنى حسن أن يحصل على بدلة “أبو عمار” لكي يضعها في مزاد علني ويبيعها، ويفتح بثمنها مركزاً ثقافياً كبيراً يجمع شباب الحيّ، ويؤمّن لهم عملاً يحميهم من الظلم والحياة التي تحرمهم حقوقهم فتسرق منهم ألوان البهجة وتعرّيهم وتجعلهم أعداء أنفسهم، ضعفاء ينتظرون مستقبلاً مجهولاً، ولا تترك لهم سوى الشبح الأسود الذي ترونه أنتم.