مقال جسور
يوم في مخيم عين الحلوة:بين حنين العودة والموت القريب
*صحافية فلسطينية – مخيم عين الحلوة – لبنان.
الصباح في المخيم يبدأ عند السابعة الا ربعاً صباحاً. ليس عندي ما أفعله باكراً. لا شيء غير أن البيوت في المخيم كقرية السنافر، متراصة متلاصقة ما يضطرني إلى الاستيقاظ يومياً مع جارتي التي توقظ أبناءها للذهاب إلى المدرسة، فأستيقظ معهم على صوت صراخها وهي تقول يلا يا عبد الله “قوووووووووووووووووووووووم”، و”قوم”.
هذه مثل بوق العسكر تُوقظ كل مَن يسكن قرب أم عبد الله هذه .
صباحات المخيم صاخبة، يعلو فيها ضجيج طلاب المدارس الذاهبين إلى مدارسهم يلتقون وجهاً لوجه مع عمّال النظافة وعرباتهم المكدّسة بالنفايات، ما يجعلهم عرضة للدهس في أي لحظة. أما السيارات المصطفة على جانبي الطريق، فهي تجعل من مساحة الشارع لا تتسع إلا لشخص واحد أو اثنين .
يومي في المخيم كيوم غيري من الشابات. أقوم على عجل أشتم أم عبد الله في داخلي، فقد أيقظتني باكراً قبل محاضرة الساعة العاشرة. أشرب النسكافيه مع أمي.
هو المخيم ولا شيء جديداً فيه: أبنية تحاصرك من كل اتجاه تشعر كأنك في قعر جهنم محاصر بالحجارة، تتسلل إليك أشعة الشمس بين الجدران والعمران العشوائي بخجل. لا شجر ولا زهور ولا صوت عصافير. كل ما يقدر لك أن تسمعه هو نميمة الجارات يغتبن بعضهن البعض، وصراخ الأمهات وصوت بائع الخضروات الذي يأتي باكراً يصرخ “أربعة بألف يا سبانخ!”.
بعد النسكافيه تبدأ رحلة العذاب للذهاب إلى الجامعة واجتياز حواجز المخيم و”اللفلفة” بحثاً عن مخرج أقل ازدحاماً من غيره. رحلة البحث هذه تستغرق ساعة كاملة أحياناً في الوقت الذي يجب أن أصل فيه إلى جامعتي بـ10 دقائق لو أن الطريق سالكة. بعد الجامعة، غالباً ما أضطر إلى العودة راجلة إلى البيت بسبب رفض السيارات الدخول إلى المخيم، أولاً بسبب الزحمة، وثانياً بسبب خوفهم من حصول اشتباك مفاجئ. وهنا أشعر بأنني أعيش أنا ومعي كل سكان المخيم، حالة فوضى كارثية ونكبة جديدة. كأننا نعيش في “غيتو” بالإضافة إلى الصورة النمطيّة عن المخيم الذي نعيش فيه بمعزل عن باقي البشر “محميّة بشرية فيها بشر مفترسون”. صورة نمطيّة ترتسم على وجه سائق التاكسي عندما أقول له “إلى المخيم”، يرمقني بنظرة ثم “يشفّط” بعجلات سيارته، تاركاً وراءه سحباً من غبار يحجب الرؤية. وأبقى نصف ساعة وأكثر وأنا أبحث عمن يعيدني إلى البيت تحت المطر أو أشعة الشمس الحارقة، سيّان. أشتم المخيم تارة، وحظي الأعثر تارة أخرى، وأشتم جدي الأول الذي خرج من فلسطين، وأمّ اليهود. ثم أمسك جيداً بالكتب وأعود سيراً على الأقدام.
في يوميات المخيم مطلوب منا جميعاً، وفي مختلف الأزمنة والأمكنة فيه، أن ننام منتعلين أحذيتنا خوفاً من معركة مفاجئة. في بيتي أنا مثلاً حقيبة ملابس جاهزة دائماً للهرب، في داخلها ملابسي وملابس زوجي وأوراقنا الثبوتية وبعض الكتب النادرة، جاهزة من أول طلقة أو قذيفة، وقد لا يسعفك الوقت في حملها والخروج. مرات ومرات هربنا حفاة تحت أزيز الرصاص من دون التفكير حتى في حمل أي شيء غير أرواحنا .
في المخيم تحلم بيوم هادئ خالٍ من الأصوات، من الضجيج. حتى في يوم الجمعة وهدوئه يخرق حياء صمته صوت الأطفال الذين قرروا تمضية إجازتهم الأسبوعية في الشارع. يلعبون الكرة، يتقاذفونها فأرى طفولتي تركض معهم. طفولة حُرمت من وجود أماكن مخصّصة للعب، للهو وللمرح مثل بقية أطفال العالم، فكان الشارع ملعباً لنا بين الخطر والسيارات والرصاص العشوائي.
تأتي جارتي دعاء صباحاً، لا شيء جديداً معها سوى كلمات مألوفة “عرفتي اليوم مين انقتل، كان في استنفار الليلة، فلان أصيب عن طريق الخطأ”. حديث الجارات والأطفال والشيوخ والشباب، ويبقى السؤال الواضح على وجوههم متى المعركة الأخرى وأين ولماذا؟.
على قارعة الطريق في المخيم يقف الشبّان يناظرون بعضهم البعض بسبب البطالة. منهم من يجلس وراء بسطة وضع عليها بعضاً من قناني العطر المزوّرة لبيعها، وآخر وراء عربة للخضروات أو السحلب.. جميعهم يفكرون بالسفر.
الواقع في مخيم عين الحلوة لا يمكن أن يكون أكثر اختلافاً عن الإسم الذي يحمله رغم مرارة العيش فيه. يكفي أنه محطة انتظار للمصابين بحمّى الحنين إلى فلسطين ولم يقدر لهم الشفاء، فأنت في المخيم لا تبحث عن علاج لمرضك بالحنين، بل عن علاج للعودة، لا شيء سوى العودة. هو المخيم عندما أدخله تنتابني رعشة من أثر حمّى البلاد. هذه الرعشة ببساطة القول، تشبه أكثر ما تشبه حد موجة متشردة تتوق لعناق الشاطىء، رغم أن الموت بعيد عنها وعني مجرّد خطوات قليلة.