مقال جسور
“حق العمل” كمحور لهواجس الشباب الفلسطينيين في لبنان

جنى الدهيبي
صحافية لبنانية
داخل مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين شمالي لبنان، تتكثف معاناة شعب منكوب لم يعهد الاستقرار والأمان منذ لجوئه إلى مختلف البقاع المجاورة لفلسطين. في هذا المخيم الذي لا تتجاوز مساحته كيلومترًا مربعًا واحدًا، ويقطنه أكثر من 55 ألف نسمة، يلهو الأطفال في أزقته وبين أبنيته المتهالكة بلا تعلم. كما يجتمع معظم شبانه في المقاهي وعلى أطراف الأرصفة، أو يجولون ذهابًا وإيابًا للتخفيف من وطأة البطالة، وهربًا من الإنغماس بشعور العجز عن فعل أي شيء.
تاريخياً، اختبر هذا المخيم الذي يقع في منطقة ذات حساسية أمنية، الكثير من الأحداث والإضطرابات التي جعلت منه أحد أكثر المخيمات اكتظاظًا وانعكاسًا لمعاناة الفلسطينيين في لبنان. خصوصًا بعد أحداث مخيم نهر البارد منتصف 2007، والتي أفضت إلى تشرد ما لا يقل عن 27 ألف فلسطيني توجّه معظمهم إلى مخيم البداوي نظرًا لقرب المسافة بينهما، كما ضم المئات من الفلسطينيين الهاربين من المخيمات السورية، إضافة إلى نازحين سوريين وعائلات لبنانية تعيش فقرًا مدقعًا.
الشعور بالغبن
ومخيم البداوي هو واحد من 12 مخيمًا فلسطينيًا في لبنان، تعترف بها الدولة اللبنانية والأونروا جغرافيًا وديمغرافيًا، مقابل وجود عشرات نقاط التجمع غير الرسمية للاجئين الفلسطينيين، وتضم جميعها ما لا يقل عن 174 ألف لاجئ وفق التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان لعام 2017 الذي اشرفت عليه لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وتولى كل من ادارة الاحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني تنفيذه ميدانياً وشمل 12 مخيماً و156 تجمعاً فلسطينياً على عموم الاراضي اللبنانية[1] ، بينما ترجّح تقديرات الأونروا وجود نحو 475 ألف لاجئ، دون أن يعني ذلك أن جميعهم يقيمون في لبنان.
وواقع الحال، فإن كثافة أعداد الفلسطينيين في لبنان، يظهر أن معظمهم من الجيل الفتي (تشكّل الفئات العمرية من 19-35 سنة نسبة 63% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لنتائج التعداد العام)، وهو ما يطرح في الواجهة معضلة العمل والبطالة (بلغت نسبة 18.4% مـن الأفـراد المشـمولين فـي القـوى العاملـة) التي يتمحور حولها هموم الشباب الفلسطينيين، في بلد لا يوفّر لهم سبل العمل بحرية خارج سقف القيود القانونية والاعتبارات السياسية.
وفي جولات دائمة داخل المخيمات، نلحظ سريعًا هواجس الشباب الفلسطينيين تجاه مستقبل يصفوه بالقاتم، ويحوّل شرائح واسعة منهم إلى أشبه بحراس لمخيماتهم، أو يقعون ضحايا انتشار السلاح والمخدرات، لا سيما أن لبنان يختبر اقتصاديا أحد أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم، وتضرب الفوضى مفاصل عيش سكانه، سياسيًا ومعيشيًا وأمنيًا واجتماعيًا.
هكذا، تعقدت أزمات الشباب اللاجئين كنتيجة لتدهور الأوضاع في لبنان، حتى أن بعض المسؤولين أصبحوا ينظرون إليهم كمسألة ثانوية أو مؤجلة على أجندة البحث، فيما يذهب آخرون إلى تصنيف واقع لجوء الفلسطينيين بمرتبة مسببات الأزمة اللبنانية. غير أن الشباب الفلسطينيين، هم في الواقع من أكثر الفئات هشاشةَ وضعفًا في لبنان، وأبرز ضحايا أزماته. ناهيك أنهم يواجهون اجراءات مشدّدة بحقهم، إذ لا يستطيعون العمل خارج المخيمات إلا بشروط صارمة ورخصة رسمية، وأصبح معظمهم يشعر أنه عبء على عائلته بدل أن يكون داعمًا لها، ماديًا ومعنويًا.
العمل وعوائق القانون
وفيما جرى التركيز منذ عقود على اعتبار أن التعليم والصحة هما أولوية الفلسطينيين لجهة الخدمات المقدمة لهم، لكن التجربة تكشف أن اشكالية “حق العمل” تدور حولها كل معاناة الفلسطينيين وأشكال حرمانهم من مختلف الحقوق المدنية. وعمليًا، فإن حرمانهم من العمل بحرية، يعني تلقائيًا أنهم أسرى مخيمات تُطبق عليهم كل الآفاق، ويعجزون فيها عن توفير اكتفائهم الذاتي بصورةٍ مستقلة، وغير قادرين على لعب دورهم كأفراد لهم الحق بالإنتاج وبناء هوياتهم الشخصية والمهنية.
هذا الأمر، يحيلنا إلى السجال القانوني والسياسي الذي أثاره قبل أشهر قرار وزير العمل اللبناني بحكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم، حول “السماح للاجئين الفلسطينيين بمزاولة بعض المهن المحصورة باللبنانيين” دون أن يتكلل بالنجاح، نتيجة اصطدامه بعوائق قانونية ونقابية.
فإذا كان الشباب الفلسطينيين اشتهروا تاريخيًا بطوقهم إلى التعلم، لكن القوانين اللبنانية حظّرت منذ عقود على الفلسطينيين، مزاولة عشرات المهن، وتحديداً تلك المرتبطة بجسم نقابي، كالهندسة والطب والمحاماة، وهي اختصاصات يطوق إليها آلاف الشباب الفلسطينيين في لبنان. وتبيّن عدم فعالية قرار وزير العمل – والذي كان كفيلًا بالمضي خطوةً نحو توفير عدالة الفرص للاجئين الفلسطينيين وبما يراعي خصوصية الوضع اللبناني – وذلك لأن قرار الوزير ليس مرسومًا حكوميًا، ويمكن لأي وزير مقبل أن يلغي قرار الوزير السابق.
توازيًا، تقفز اشكالية أخرى يواجهها الفلسطينيون في لبنان، وهي بمثابة ضغط معنوي، عندما تُجابه مطالبهم من بعض الفئات والأطراف، أنها دعوة مبطّنة للتوطين والتخلي عن حق العودة إلى فلسطين. وهو طرح يعتبره الفلسطينيين تشويشًا وتضليلًا لمطالبهم أمام الرأي العام.
وهنا أيضًا، لا بد من بحث الجهات المسؤولة عن الملف الفلسطيني، وبجرأة واضحة خارج أطر الخطابات الرسمية التقليدية، حول التداعيات النفسية على الشباب الفلسطنيين، وهم يتحسسون كل أشكال العزلة والاضطهاد والتمييز.
ولعل أولى تداعياتها، كان بتصاعد ظاهرة اتخاذ مئات العائلات الفلسطينية خيار الهجرة غير النظامية عبر البحر نحو قبرص وأوروبا. وآخر فصول هذه المأساة، كان في 23 نيسان/أبريل 2022، حين غرق قبالة شاطئ طرابلس قارب على متنه عشرات المهاجرين غير النظاميين نحو إيطاليا، معظمهم من اللبنانيين، وبينهم فلسطينيون وسوريون وأغلبهم من النساء والأطفال، ويوجد حتى الآن ما لا يقل عن 23 شخصا بعداد المفقودين في قعر البحر.
وعلى مستوى أشمل، فإن أكثر ما يحتاجه الفلسطينيون في لبنان، وتحديدًا الفئات الشابة، هو اجترار حلول لواقعهم المأساوي الذي تغلب عليه سمة العجز. وذلك عبر الإنتقال من مرحلة شعب منكوب في المخيمات يستجدي المساعدات العينية والمادية، إلى أفراد قادرين على الانتاج عبر توفير الحماية القانونية لحقهم بالعمل، وهي مسؤولية مشتركة تقع على الأطراف الرسمية اللبنانية والفلسطينية ووكالة الأونروا، وإلا سيبقى مصير الشباب الفلسطينيين ومستقبلهم، مهددًا بشبح “قوارب الموت” ومختلف الآفات الاجتماعية والمخاطر الأمنية.
[1]lpdc.gov.lb/ar/publications/تقرير-النتائج-التحليلية-لتعداد-اللاج/