تفاصيل الاخبار
رفيق الحريري: في ذكرى غياب ساطع الحضور
تحتار كيف لك أن تقارب رجلاً من وزن رفيق الحريري، وهو الذي ملأ الدنيا في حياته وشغل العالم منذ جريمة استشهاده، ولا يزال ماثلاً شامخاً بما حققه وأضافه لبلده الصغير ولوطنه العربي الكبير، إذ ليس أمراً بسيطاً أن يحظى بعضوية الانتساب إلى نادي الكبار في العالم، مع أنه ورث معضلات وتركة ثقيلة تئن منها الجبال، لكن عزيمته، وقُلْ قَدًره، كان أن ينهض بما نُذر له من مهام في كل منتدى ومحفل وميدان.
كان رفيق الحريري وطنياً وعروبياً وعالمياً في الوقت نفسه، نبعت وطنيته من نشأته ومما عاناه وطنه، وآخر مشهد من مشاهده كان تحوله ساحة لتصفية الحسابات وتوجيه الرسائل. كانوا يقولون عن لبنان إنه صندوق بريد بين قوى الصراع الاقليمية والدولية، ولم تكن تلك الرسائل سوى حروب كبيرة وصغيرة، وكانالدمار ماثلاً على كل صعيد، في الحجر والبشر معاً. لم تكن المدن المدمّاة بالاجتياح الصهيوني والحروب الأهلية سوى تظهير لجراح وانكسارات في النفوس، ويأس من إمكان النهوض والقيامة. لذلك توزع اللبنانيون على المنافي والمغتربات، وانكفأوا عن تفاعلهم إلى محابس كانتوناتهم الطائفية.
كان على رفيق الحريري أن يلأم الجراح جميعاً، ولم يكن يملك عصا سحرية . عصاه السحرية كانت إرادته الصلبة. لذا قرر أن يضيف حضوره السياسي والاقتصادي إلى وزن وطنه المثخن، ويبدأ من نقطة الصفر، الصفر وما دونه تماماً وليس تقريباً .لربما هذا هو سره وسحره في الوقت ذاته. أن يصنع من اليأس أملاً ومن الخراب عماراً . ولأنه كان عروبياً، ظل مهجوساً بالأوضاع العربية عموماً وبالقضية الفلسطينية خصوصاً، باعتبارها روح الصراع وأساسه في المنطقة، إذ لا أمل باستقرار الأوضاع ما دام الشعب الفلسطيني مشرَّدا يعاني مأساتي الاحتلال الاسرائيلي، والشتات في البلدان العربية وبقاع الأرض. وكان يدرك أن مساهمة لبنان في المنطقة العربية تنبع من ريادة التزامه قضايا العرب ومصيرهم في السعي إلى تحقيق التقدم، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر مشروع ينطلق من العلم والعمل، ويدفع بالمنطقة إلى مصاف الدول والشعوب التي تمكنت من النهوض بعد الخراب والدمار والتخلف ومستنقع التبعية. وكان يعرف أكثر من سواه أن هذه المنطقة بما فيها من أوطان وشعوب، لا تدور في فضاء مستقل، أو تعيش في ربعٍ خالٍ لا يعيش فيه سواها، لذا سعى إلى ربطها مع ما يدور في هذا العالم الواسع، انطلاقاً من ادراكه أن حضور القوى الدولية بكل سلبياته وإيجابياته بالغ الأهمية والتأثير على واقع المنطقة العربية ومستقبلها. لذا كان يملك شغف متابعة الظروف والمشاكل الاقليمية وكذلك الدولية، هذا الاهتمام كان مدخله إلى نسج صداقات وعلاقات مع قادة العالم، بدءاً من كندا وصولاً إلى اليابان مروراً بأوروبا وأميركا وروسيا. لذلك صار لبنان خلال وجوده في صميم الاهتمام والرعاية الدوليين. لقد أعطى لبنان وزناً يفوق بأضعاف قدراته السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
بعض ما ذكرتُ، ينتسب إلى الصورة أو المشهد العام. أما على الصعيد الشخصي، فقد التقيت الرئيس رفيق الحريري للمرة الأولى مع وفد رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، وكنا نحمل معنا له سلة من المطالب. خلال لقائه معنا أظهر اهتماماً خاصاً بالتعليم الرسمي وبالجامعة اللبنانية ودورها، وتبين لي وزملائي أنه يملك معرفة تفصيلية وعميقة بقضية الجامعة ومشكلات أساتذتها، حتى أني بعد عودتنا قلت إنه يعرف ملف الجامعة أكثر من معظم الأساتذة. ومع أنه أعرب عن اهتمام استثنائي ببناء مجمّع الجامعة في الحدث، إلا أننا لم نصدّق ما سمعناه منه، باعتبار أن ذلك يدخل في باب الوعود التي سمعناها كما سمعها الأساتذة النقابيون الذين سبقونا من سياسيين كثر. لكن الوعد أصبح مشروعاً على الورق ثم تباعاً أخذ يخرج إلى النور، ويتحول إلى ورشة تنفيذ كبرى ثم إلى واقع أمام أعيننا. أكثر من ذلك، كان دوماً متجاوباً مع مطالبنا كأساتذة، فصندوق تعاضد الأساتذة وقد كان حلماً، تحول واقعاً معه، وكذلك مخصصات البحث العلمي وغيرها. وكان يردد على مسامعنا عندما نلتقيه: سأعطيكم ما تريدون لكن شرطي عليكم هو أن تعطوا المؤسسة حقها في البحث العلمي وطلابكم الوقت اللازم
نكون حيث تكون “النهار” دائماً
عندما أذكر الوقائع السابقة، ذلك من أجل أن أشير إلى أنه كان المؤهل لإخراج لبنان من المستنقع الذي سقط فيه خلال سنوات الحرب مع كل ما تمخض عنها من مشكلات، ليس فقط على صعيد إعادة الإعمار المطلوبة، بل من خلال آثارها ونتائجها ومدى ما أحدثته من تمزيق للبنية النفسية والاجتماعية اللبنانية، التي كانت بأمس الحاجة إلى إعادة البناء وليس الترميم فحسب.
أقول إنه إضافة إلى لبنانيته وعروبيته وعالميته، وجدته عندما ترسخت علاقتي به في السنوات اللاحقة، صاحب رؤيا ومشروع. وخلافاً لكثير من الحالمين الذين تظل أفكارهم أفكاراً ورؤاهم أوهام يقظة، كان رفيق الحريري يملك قدرات جبّارة يصرفها في تحويل طموحاته إلى قرار بالتنفيذ مع متابعة دقيقة لأصغر التفاصيل. يفعل ذلك من خلال طاقة قصوى على الاستماع، بل الإصغاء لكل الناس مهما كانت تلاوينهم ومشاربهم، ثم يعيد وضع ما سمعه على مشرحة أفكاره وطموحاته، فيأخذ ما يفيد الإنجاز، ويهمل ما لا جدوى منه.
أمر إضافي أود التوقف عنده وهو مدى شعوره بالناس، بظروفهم الحياتية وفقرهم ووجعهم المعيشي. لا يدخل ذلك عنده في باب الإحسان والشفقة، بل في مجال مسؤولية الدولة عن النهوض بالفئات الفقيرة والوسطى ودفعها نحو التقدم من خلال أمرين مزدوجين أحدهما تيسير سبل التعليم العالي أمامها، وخصوصاً عبر الجامعة اللبنانية وقوافل المبعوثين إلى جامعات العالم. أما ثانيهما فهو استجابة المطالب المطروحة مهما كلفت الدولة، وهو ما كان يقرره على رغم وجود معارضة حوله لخطواته هذه.
لقد اعتبر رفيق الحريري أن هذا هو واجب الدولة، أما واجب الذين تتم تلبية مطالبهم فهو الإنتاج للدولة والبلد والقطاعات التي يكدحون فيها أياً كانت.
رفيق الحريري على رغم حوالى العقد ونصف العقد على رحيله، يظل ساطع الحضور.
رئيس لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، وزير سابق.
الكلمات: منيمنة،لجنة الحوار،الرئيس،الشهيد ،رفيق الحريري،فلسطين